يا أنا...

يا من خُلقتَ من صبرٍ لا يفنى، وكبرياءٍ لا يُنكسر،

يا مَن خُلطتَ من نارٍ لا تحرق، بل تُنير، ومن صخرٍ لا يتهشّم، بل ينهض.

يا من إذا خاصم القدر الناسَ، وقفْتَ له وجهًا لوجه،

لا كسائلٍ يتضرّع، بل كفارسٍ أعزل، لكن فيه ما يغني عن السيف والدرع.

أنا لستُ ممن يسيرون في ظلال الآخرين،

ولا ممن يتكئون على أكتاف المديح،

أنا ابن نفسي، وربيب تجربتي،

صنعتُني الأيام، لا الألسنة،

وعرفتُ ذاتي في الغياب، لا في الضجيج،

سلكتُ الدروب وحدي، وواجهت الوحشة وأنا أبتسم،

فما ضعفت، وما ارتهنتُ لظلّ أحد.

وإن سألوني: من تكون؟

قلتُ: أنا الذي لا يُعرف من كثرة حضوره،

بل من أثره، من صدى خطواته حين تمرّ،

أنا الذي إن وطئتُ أرضًا، هابتها الريح وسكنت،

أنا الذي لا يُظهر بأسه،

إلا إذا استُثير، وإن غضب،

فغضبه سكينٌ لا ينزف دمًا، بل يقطع باطلًا،

يخترق الحيف ولا يمسّ الحق.

أنا لا أظلم، وإن قُدِّر لي،

فما كانت يداي يومًا أداة بطشٍ، ولا لساني سيفَ بهتان،

أُجيد الانتصار، لكني أترفّع عن الانتقام،

لأني أعلم أن عزّ النفس لا يُبنى على كسر القلوب،

ولا على تشويه الصور،

وأن من يَجرح الناس ليظهر، يذبل ولو صعد قمةً من زيف.

أنا لا أُشهر جراحي، ولا أتسوّل العطف،

جرحي وشاحٌ أُخفيه تحت الرداء،

وأنيني نَشيد لا يسمعه إلا الله.

وإن بكيت، بكيتُ كأُسود البيد،

تدمع، لكن لا تنكسر،

تهدأ، لكن لا تخنع.

وإن جَهرتُ بجرحي، فما ذاك نحيبُ مكلومٍ يستجدي العطف،

بل صوتُ رجلٍ قرّر ألّا يختبئ خلف الأقنعة،

رجلٌ جرّب الصمت حتى اختنق،

فعلِمَ أن البوح نجاة، لا هوان.

أنا لا أُراوغ وجعي،

ولا أُلبسه قناع النسيان،

إذا سال دمي من خيانة، قلت: خانوا،

وإن ذبلتُ من غيابٍ أحببته، قلت: غابوا،

أنا لا أزيّن الحقيقة، لأني خُلقت لأحملها كما هي،

بكل قسوتها، بكل ما فيها من شوك وندى.

فما هزّني الجرح، بل زادني صلابة،

وما كسرتني الخيبة، بل جعلتني أسمو فوق توقّعات البشر،

أنا الجريح الذي يَسير،

لا يتوقف ليرثي حاله،

لكنّه لا يخجل من أن يقول: أنا موجوع.

أنا لستُ من أولئك الذين يدفنون الألم تحت الضحك،

أنا وجهٌ صادقٌ، لا يخبّئ البكاء إذا جاء،

ولا يختلق صلابةً لم يمتلكها،

أنا الصخرة التي تبكي إن زاد المطر،

لكنها تبقى صخرة.

فإن بكيت، فما عيبٌ في ذلك،

العيب أن أُكابر حتى أنفجر

وأن أصمت حين ينهشني الداخل

يا أنا... إن جُرحتَ، فحدّث عن الجرح إن شئت،

لكن لا تجعل من الجرح مقامًا دائمًا،

اجعل منه معبرًا، لا موطنًا،

فإنك لم تُخلق لتبكي، بل لتقوم بعد كل سقطة،

تغسل وجهك بالماء، وتمضي،

كأن شيئًا لم يكن،

لكنّ قلبك يعلم أنك انتصرت،

على الضعف، لا على الشعور.

أنا الذي تربّى على الحكمة لا على اللوم،

فما وُجدتُ لأُدين الناس، بل لأُصلحني،

وما اعتدتُ أن أرفع صوتي،

لكن إذا نطقت، خَشعت الأسماع وانحنت الحروف.

لا أباهي بمن أنا،

لكن في صدري مروءةٌ تشهد لي إذا جهلوني،

وفي أخلاقي سيفٌ مغمَّد، لا أستله إلا إذا استباحوا كرامتي.

إن رأيتَني صامتًا، فلا تظننّي ضعيفًا،

وإن لم أُعاتب، فلا تظننّي غافلًا،

لكني لا أُشعل حرائق لأُثبت حضوري،

ولا أنزل لمستنقع الردي لردِّ الأذى،

فمنذ صغري تعلمتُ أن السحاب لا يردُّ على نباح،

وأن الطود الأشمّ لا يتزحزح إن لُطمته ريح.

أنا الذي يرضى بالقليل، إن كان طيبًا،

ويرفض الكثير، إن كان منّة،

لا أطأطئ رأسي إلا لسجودي،

ولا أُسلّم رايتي إلا لله،

وإن أحببت، أحببت بصدقٍ لا يعرف التلوّن،

وإن فارقت، فارقتَ كما يليق برجلٍ يعرف قدر قلبه.

يا أنا…

أنت الغيم إن عطش الناس،

والصخر إن خانتك الأرصفة،

أنت ظلّك، ونديمك، وأول الخُطى وآخرها،

إن نال منك التعب، فارفق بك،

وإن خانوك، فابقَ كريمًا،

فلا تقتصّ من أحدٍ لأجل ذاتك،

بل لأجل الحق الذي لا يُهان وأنت حيّ.

لا تكن حجرًا في أفواه السفهاء،

كن المعنى حين يموت الكلام،

كن أنت... لا أكثر،

فأنت الذي لا يُزاد عليه، ولا يُنتقص منه،

مكتملٌ بما فيك، سامقٌ

بما عرفت،

حرٌ كما ولدت، كريمٌ كما رُبيت،

شامخٌ وإن تقوّست الأيام،

مهيبٌ وإن أنكرتك المرايا.

• صلاح الدين العفيف