يا من سكنتني سُكونًا لا يُشبه السكون،

يا من تقاسمتَ مع أنفاسي الشهيقَ والزفير،

ما الذي بيني وبينك؟

أيُّ عهدٍ جهلتُ أني عقدتُه معك؟

أيُّ ذنبٍ اقترفته روحي لتُبتلى بك هذا البلاء الطويل؟

تقدّمتَ نحوي كغيمٍ خادع،

تظاهرتَ بظلٍّ، فكنتَ بردًا، وجفافًا، وموتًا بلا قبر.

أما اكتفيت منّي؟

ألم يرهقك مقامي الكسير؟

ألم يحرّك فيك حزني الصامت، وعُزلتي التي تُدمي؟

كلما رمّمتُ ما انكسر،

عدتَ بهدمٍ أشدّ، وشتاتٍ أقسى،

كأنك تغار من نهوضي، وتخشى أن أراك مجرّد عابرٍ كنتَ هنا… وانتهيت.

يا وجعي،

كنتُ أحسبني جبلًا لا يُزحزحه ريح،

فأدركتُ أن الجبل لا يسقط،

لكنه يئنّ… بصمتٍ يزلزل الداخل،

كنتُ أحسبني سيفًا لا يُغمد،

فأدركتُ أن السيوف الصامدة… تُبلى،

وأنّ الحدة لا تُنقذها من الصدأ حين تكسوها دموع الليل.

عاتبتُك كثيرًا،

لكنّني اليوم لا أعاتبك،

بل أعاتب نفسي…

لأنني أطلتُ الوقوف على بابك،

رُحتُ أفتّش فيك عن معنى، عن حكمة، عن تبريرٍ لهذا البلاء،

ونسيتُ أن بعض الأبواب خُلِقت بلا مفاتيح،

وأنّ الطرق المظلمة لا تُنيرها الأسئلة، بل الرّحيل.

يا ألمي …

لم أعد كما كنت،

لا طريًّا كالعشب، ولا هشًّا كرماد الانتظار.

أنا الآن نارٌ تستتر،

صمتٌ يشهد،

قلبٌ تعب من الانهيار… فاختار المواجهة.

تعالَ وانظر إليّ،

تأمّل مَن حسبته صيدًا يسير على حدّ الموت،

ها أنا ذا…

قمتُ من موتي بلا كفن،

وقطعتُ نعوتي بيدي،

لم أطلب مواساة،

ولا انتصرتُ بالبكاء،

بل بصبرٍ حارق، ووجعٍ نَبَتَ على جلدي حتى صار درعًا.

لم أعد أهابك،

ولا أرجوك أن تُفارقني،

بل أدعوك أن تبقى،

لكن كظلٍّ يمشي خلفي… لا أمامي،

كدرسٍ، لا ديّان،

كوشمٍ قديمٍ على الروح، لا جُرحٍ يُنزف كل ليلة.

أنا لستُ الحُطام الذي تراه،

بل بُنيانٌ من فُتاتٍ عصيّ على السقوط،

أنا مرآةٌ انكسرت ألف مرة،

لكنّ شظاياي ما زالت تعكس النور.

أيا حزني،

لم أعد أطلب النسيان،

بل أطلب أن أكون أنا… بي، رغمك، دونك، أو بك.

أطلب أن أعبُر، أن أعيش، أن أضحك دون ارتباك،

أن أمشي في الطرقات ولا أخاف أن تُباغتني دمعة،

أن أُمسك القلم لا لأكتبك، بل لأكتبني.

وإن عدتَ…

عدْ ساكنًا، عدْ صامتًا،

فلم يعد في القلب متّسعٌ لعاصفة،

عدْ كما يعود الخريف… بلا ضجيج،

ولا تُراهن على سقوطي من جديد،

فقد صار لي جذورٌ لا تراها،

وصوتٌ يعلو حتى في صمتي،

ونورٌ لا تطفئه عتمتك.

فأنا…

أنا من أُنهِك ولم يُهزَم

،

تعثّر ولم يمت،

بكى ثم ابتسم،

أنا الذي كلما سقط…

عاد.

• صلاح الدين العفيف