ليتك يا محجوب قرأت
كان "كتاب المعرفة" يرقد على الطاولة الصغيرة بجوار كرسي محجوب المفضل، لا كأي كتاب آخر في الغرفة المكتظة بالكتب، بل كقطعة أثرية حية، تنبض بوعد غامض. لم يكن غلافه الجلدي البالي أو رائحة ورقه العتيقة هي ما يأسر محجوباً، بل ما يكمن خلف ذلك، ما وراء الكلمات المطبوعة نفسها.
أحب محجوب "كتاب المعرفة". لم يقرأه كاملاً بالطريقة التقليدية قط، تلك الطريقة التي بدت له فجأة سطحية وميكانيكية – تتبع العين للسطور، وترجمة الرموز إلى أصوات في الرأس، ثم تجميع المعاني. شعر أن هذا يقلل من شأن الكتاب، يحدّ من فيضانه المحتمل. لقد قرأ فصولاً متفرقة، عبارات لفتت انتباهه، لكنه كان يدرك أن هناك عمقاً آخر، معرفة لا يمكن احتواؤها بمجرد القراءة الخطية.
كان يشتهي تجربة مختلفة. تجربة أن "يعرف" الكتاب دون الحاجة إلى المرور عبر بوابات الحروف المادية. أراد أن يغمض عينيه، ويستحضر "الكتاب" في ذهنه، ليس كصور صفحات، بل كجوهر نقي. أراد أن يشعر بالحروف تتشكل في عقله مباشرة، لا كرموز يفك شيفرتها، بل كأحاسيس، كأفكار تتولد من العدم المعرفي.
في تلك الليلة، خفّت الأضواء في الغرفة، وجلس محجوب في كرسيه، والكتاب مغلق أمامه، كشاهد صامت على محاولته الغريبة. أغلق عينيه ببطء، محاولاً تهدئة عقله الذي عادة ما يموج بالأفكار المتدافعة، ذلك العقل الذي وصفه سراً لمرات عديدة بـ"المشتت".
بدأ بالتركيز. لم يكن تركيزاً على كلمة أو فكرة، بل على "وجود" الكتاب، على ماهيته. حاول أن يتخيل الحرف الأول من الفصل الأول، ليس شكله المرسوم، بل "فكرته"، "طاقته". تخيل حرف الألف منتصباً في فراغ عقله، ليس كخط، بل كبداية، كإشارة. ثم حرف اللام، بانحناءته التي تحمل في طياتها تواصلاً ما.
تطلب الأمر جهداً هائلاً. بدت الحروف كائنات مراوغة، تظهر وتختفي، تتراقص في الظلمة خلف جفنيه. لم تكن تتجمع لتشكل كلمات واضحة، بل كانت تثير فيضاً من الصور والانطباعات والأفكار المتشظية. مقطع عن النجوم، شعور بالبرد، ذكرى من الطفولة، تساؤل فلسفي حاد عن طبيعة الوجود، خوف غامض، إحساس بالضياع في بحر لا قرار له... كل هذا كان يتوالد من محاولته "قراءة" الحروف دون قراءتها.
شعر وكأن عقله يتحول إلى مرجل، تتلاطم فيه المعاني المحتملة للكتاب كله دفعة واحدة، لا بترتيب ولا بتسلسل. أحس بالمعرفة كثيفة، سائلة، تكاد تغرقه، لكنها معرفة غير قابلة للإمساك، غير قابلة للتسمية. لقد أراد أن ينغمس في الكتاب، وها هو ينغمس، لكن ليس في كلماته المرتبة، بل في فوضاه الكامنة، في بحره الذي لا ساحل له.
بعد مدة، لم يعد يعرف كم طالت، فتح محجوب عينيه. كان يشعر بإرهاق شديد، كمن خاض رحلة طويلة في عوالم مجهولة. لم "يقرأ" شيئاً بالمعنى التقليدي، لكنه شعر أنه "لامس" شيئاً من روح الكتاب، أو ربما من فوضى روحه هو التي انعكست عليه.
نظر إلى "كتاب المعرفة" الصامت على الطاولة. هل نجح؟ هل فشل؟ لم يكن يعرف. ربما كانت هذه الطريقة، هذه المحاولة المستحيلة للاتصال المباشر وغير المفلتر، هي القراءة الوحيدة التي تناسب عقله "المحجوب" عن اليقينيات البسيطة، "المشتت" بين احتمالات المعنى اللانهائية. ربما كانت الرغبة في قراءة الكتاب بهذه الطريقة هي بحد ذاتها أعمق قراءة له
التعليقات