يُقال إن دأبَ الإنسان أن يألف الألم كما يألف الزهر ملامسة الريح، لكن الحقيقة المُرة أن الإنسان لا يُولد إلا ليعتاد.

يعتاد الخذلان حتى يغدو الطعن عادةً تتقبلها جوانحه بصمت النائحين، فلا يجزع لسكينٍ جديدةٍ تنغرس بين أضلاعه، ولا يئن لصدى الخيانة حين يهدر في أعماقه كهدير العاصفة العمياء.

يعتاد الألم حتى يصبح الوجع نديمه الذي يسامره في الليالي الطوال، يؤانسه إذا جفاه الرقاد، ويواسيه إذا أعرضت عنه الدنيا بقسوتها المستعرة.

يعتاد أن تُسرق أحلامه كما تُسرق السنابل في موسم الجدب، يرى بذور آماله تنسلُّ من بين يديه كما ينفلت الماء من قبضة العطشان، ويقف مذهولًا، عاجزًا، كأن الزمن قد خانه، وكأن الحياة قد حنثت بوعدها المقدس.

يعتاد أن يرى أكثر الوجوه حبًا لقلبه تمضي بعيدًا عنه، تكبر خارج مداراته، ويُشاهدهم من علٍ كالنجم الخافت، يبتعد شيئًا فشيئًا عن سماء روحه حتى يغدو أثرًا بعيدًا لا تطاله يداه، ولا تصله دعواته الدافئة.

يعتاد أن يمضي العمر بين أطلال الأمنيات المهدورة، يسير وحيدًا تحت أعمدة الانتظار المنكسر، يستند على ذكرياته كما يستند الجريح على رمحه المهشم.

ومع كل اعتياد، يغرس في صدره زهرةً من مرارة لا تذبل، وعبر كل خذلان، يخُط في قلبه نقشًا من وجعٍ لا يُمحى.

يتآلف مع الكسر، ويتصالح مع الفقد، ويتعايش مع الخسارة، حتى تُصبح تلك الأحزان أوتارًا خفية تعزف عليها روحه لحن البقاء.

ومع ذلك كله، ورغم ما يحمله قلبه من طبقات الصبر المتراكم، إلا أن في قاع فؤاده قبسًا خفيًا يأبى الانطفاء؛ شعلة صغيرة، عنيدة، ترفض أن تُبتلع في ظلمة النسيان.

فالإنسان، مهما تدجنت نفسه تحت سياط الاعتياد،

ومهما ظن أنه قد أوغل في التبلد،

ومهما حسب أن الجراح قد غلفت مشاعره بطبقةٍ من صقيع،

فإنه — عند أول نسمة ذكرى، أو أول خفقة فقدٍ — يدرك أن الذاكرة لا تُملى عليها القوانين، وأن القلب لا يُخضع للعرف.

يعتاد... لكنه لا ينسى.