لم تكن تنوي اللقاء.
خرجت من البيت كأنها تهرب من شيء لا تُسمّيه،
ومشت في طرقات المدينة القديمة كمن يتبع نداءً خفيًا
حتى وجدت نفسها هناك…
نفس الرصيف، نفس الواجهة، نفس الضوء المائل من شمس المغيب،
كأنّ الزمن دار بها دورة كاملة ليضعها في مكان الخطيئة الأولى.
وقفت.
كل شيء بدا مألوفًا بشكل يوجع.
رائحة القهوة، أصوات الكراسي الخشبية وهي تُسحب،
حتى الريح التي مرت بأطراف شالها كانت نفس الريح التي لامست وجنتيها حين قالت له:
"سأرحل."
لكنّ ما لم يكن مألوفًا... هو هو.
رأته.
في البداية، لم تعرفه.
رجل يجلس في الزاوية الهادئة،
يحمل فنجان القهوة كما يحمل السلاح،
وعيناه لا تبحثان عن شيء… كأنهما تعبتا من الانتظار.
حدّقت فيه أكثر.
تقدّمت قليلاً…
وانسحبت كثيرًا.
"هل يُعقل؟
هل هذا هو؟"
الملامح ليست كما كانت.
صار وجهه أكثر حدة،
أكثر نضجًا،
كأن التعب رسَم فيه خريطة لا يقرأها إلا من مرّ مثله بالخذلان.
جسده أقوى، قامته أشد ثباتًا،
حتى طريقة جلوسه كانت كأنها رسالة:
"أنا لست كما كنتِ تظنين."
في حضوره جاذبية لا تُشبه أحدًا.
ثقة لم تكن يومًا استعراضًا،
بل ولدت من صمت طويل وجلدٍ عميق.
عيناه… يا إلهي، عيناه!
نفس العمق، لكنّه الآن يغرق فيه وحده.
كيف تغيّر بهذا الشكل؟
من أين له هذا الثبات؟
هذا الكبرياء الرزين،
هذا الحضور الذي لا يُقاوَم؟
أهذا هو الذي تركته ذات مساء؟
من كنت أظنّه لا يعرف كيف يعيش بدوني؟
ها هو الآن يعيش... بل يملأ المكان به.
وحده يجلس،
ولا يبدو أنه يحتاج لأحد.
لكنها… شعرت بشيء آخر.
رغم ملامحه الجديدة،
رغم الوقار الذي بات يغلفه،
رأت في عينيه ذلك الطفل الذي كتب لها القصائد
ذلك الشاب الذي كان يختبئ خلف الكلمات لأنه لا يجيد قول الحقيقة بصوته
ذلك الذي كان يهديها قلبه قبل أن يهديها الورود.
رأته…
وهي الوحيدة التي عرفت:
أنه ما زال هو
لكنه أخفى كل شيء.
تذكّرت صوته حين كان يقول:
"لا أُريد منك سوى أن تعطيني من شعورك ربع ما اعطيكِ، ف ولله بوجودك لا يقوى علي شيء في هذا الوجود."
كان أمامها الآن…
وقد صار رجلاً لا يُشبه انتظارها،
بل يُشبه انتقامه من الانتظار.
لم تتقدّم.
الخطوة التي حلمت بها خمس سنوات
لم تستطع أن تأخذها.
ربما لأنها خافت أن تراه يشيح وجهه
أو خافت أن تراه يُشبهها الآن في الغربة.
ما لم تكن تعلمه…
هو أنه رآها.
منذ اللحظة الأولى، رآها.
لكنّه لم يتحرك.
لم يلمحها، لم يبتسم، لم ينهض.
لأن الوقت مرّ من قلبه كثيرًا،
وأوجاعه تعلّمت أن تصمت،
وهو تعلم أن يحتمل دون أن يُظهر.
في داخله…
كان الحريق يشتعل.
وكان السؤال القديم يعود:
"وإن عدتِ يومًا ونادت عيونكِ
فهل تذوب الليالي سُدى
وهل ينطفئ في فؤادي الحريق
وينبت في أضلعي متّكأ"
تراجعت، واستدارت، ورحلت كما لو أنها لم تأتي.
وفي تلك اللحظة،
كتب آخر قصيدة لها:
أبصرتُ طيفكِ بعدَ دهرٍ عابرٍ
وكأنّني في الحُلمِ طفلٌ حائرِ
عيناكِ ترمقني ونبضي ثائرٌ
لكنّ وجعي كانَ أبلغَ ناظرِ
كم كنتُ أرجو أن أبوحَ بمحتوى
قلبٍ تفجّرَ من لظى وتفكّرِ
كم قلتُ لو أني أراكِ لبرهةٍ
سأسكبُ الأشواقَ سكبَ الأسطرِ
لكنني اخترتُ السكوتَ مهابةً
واخترتُ نفسي في الصدى المتكسّرِ
ما كنتُ أُتقنُ كتمَ حبّيَ هكذا
لكنّ جرحي كانَ أصدقَ مخبرِ
سيري بحلمكِ لا تعودي خطوةً
قد عافَ قلبي رجفةَ المتأخّرِ
أنا لستُ ذاكَ الذي يلوذُ بنظرةٍ
بل من يمرُّ بكلّ صمتٍ عابِرِ
النهاية
التعليقات