نعرفُ بأنّ القوّة هي العاملُ الذي يُنشأ من العَدم قائداً عسكرياً مهيباً، وبالمال وعليه يقوم الثريّ بالاتصاف بالثراء، هذا ما يصنعهم، ولكن إن أردنا أن نتسائل فعلاً وباختصار عن العامل الذي يُنشأ الفنان من العدم، وليس أيّ فنّان بل الفنان الأعظم بين أقرانه، فما الذي سيكونه هذا الأمر إلّا الصدمة التي في الطفولة؟ إلى الحُزن الثقيل الذي يدهسُ وجوه الأبرياء من الأطفال فيُمزّقهم ليُعيد تشكيلهم بصورةٍ مُغايرةٍ تماماً ومختلفةٍ تماماً عن محيطها، يُميّزها بمروره.

تفطّن علماء النَفس إلى هذا الأمر عبر استقرائهم لحالات كثيرة لمُبدعين وفنّانين ساهموا بصياغة الإرث الإنساني كانوا قد تعرّضوا تقريباً وخاصّة أعظمهم إلى صدمات في الطفولة، إلى أحزان صعبة التفسير ومواقف يصعب رجال على حملها، وهذا ما أدركه أيضاً المخرج الكبير صاحب الأوسكارين المُتتاليين ستيفن سبيلبرغ، وأفرغ للموضوعة فيلم كامل fabelmans الذي يتكلّم عن آل فيبلمان وطفل صغير بمأساة تُناسبه وصدمة تفوقه لتشكّله وتصنع منه سبيلبرغ ذاته، المُخرج الذي نرى ونتنعّم بأعظم أفلامه، الذي أتحف السينما بتُحف حقيقية، لقد صنع فيلماً عن نفسه، فيلماً يُدلل على مكمن عبقريته والفضل الأصيل في أفلامه، وبالعودة إلى علماء النفس أيضاً بدورهم قد تبيّن لهم أنّ هذا الأمر يشتغل فعلاً بالحياة واستطاعوا أيضاً أن يميّزوا لهؤلاء الفنّانين الذي قُدّر لهم أن يعيشوا هكذا خصال تُميّزهم عن محيطهم، مثل ذاكرة ممتازة وقدرة اسثتثنائية على التكيّف وعدم خوف من تخطّي الأخطار المُحتملة بكل جسارة ومنذ المواجهة الأولى والأهم من كُل ذلك: قدرات فنيّة عالية، سواء بالعزف أو بالرسم والنحت أو الكتابة وذلك لإنّهم يحتاجون هذا لمحاكاة المخزون الذي لا ينضب من الأسى المُتشكّل باستمرار في خيالاتهم السوداء التي يعيشونها يومياً، إنّهم يحتاجون نافذةً للتنفيس، لطرح الآلام باستمرار، فيأتي الفن مُنقذاً لهُ وهديةً للعالم! 

أعتقد أنّ الأمر عندي وبحسب المُراقبة يتعدّى مسألة أن تكون صدمة الطفولة عامل مُشكّل للفنان، بل برأيي أنّ هذا الأمر عامل مُشكّل للفنان الذي يتفوّق أيضاً على أقرانه من الفنانين، قد تختلف معي عزيزي القارئ ولكن لنا الحياة أمامنا في هذا، راقب من أين أتت عبقرياتنا فعلاً، أليست كانت جميعها مستمدّة من الأسى؟ من لُبّ الأسى وعلاقة الفنان بماضيه؟ ويحضرني الآن كلام دوغلاس ستيورات الذي نال مرةً جائزة البوكر عن أدبه في رواية "شوجي بين" حيث كان يقول ويجيب عن السؤال التالي: كيف تشكّلت معك هذه الرواية الرائعة وهذا الاسلوب المُدهش؟ فردّ بهذه العبارة المؤثّرة: أعتقد أن أحد أعظم الأشياء التي يمكنك القيام بها، "اذا كنت قد تعرضت لصدمة في طفولتك، هو تحويل التجربة القاسية الى فن وتأمل كل هذا عن قرب"

برأيي قد أصاب عين الحقيقة وأنت ما رأيك؟ 

هل تجد أنّ في الأمر مبالغات أو شطحات غير منطقية؟ 

أو أنّك مقتنع مثلاً بأنّ للعبقرية عوامل تفوق عامل صدمة الطفولة تأثيراً؟