في صباحٍ باردٍ من أيام المدرسة، كنت أجلس على الأرض كعادتي، أحدّق في قدميّ وكأنهما كنز غامض. أمامي يقف التحدي الأكبر في حياتي حينها: ربط الحذاء.

كل شيء كان يبدو مرتبًا: المئزر مكوي (تقريبًا)، الحقيبة محشوة بكل شيء عدا ما أحتاجه فعلًا، وحتى شعري الممشط بعناية ببلل خفيف من لعاب أمي. لكن الحذاء؟ لا، الحذاء كان يعاندني كأنه يعرف أنني لم أستوعب بعد ما معنى "أربط عقدة".

أمسك الخيط الأيمن، ثم الأيسر، ثم... ماذا بعد؟ أُكوّن أذنين؟ أرسم فراشة؟ أُغني أغنية؟

أمي كانت تراقبني من خلف الباب وهي تقول: "يا وليدي، متى تتعلم؟ كل يوم نفس الشيء!"

كنت أرفع عيني إليها وأرد بكل فخر طفولي:"غدوة نتعلم، ومانحتاج حتى واحد!"

ثم أمدّ قدمي بصمت، وأتركها تَربط.

كنت أعرف أنني سأعيد نفس السيناريو غدًا، وبعد غد، وربما حتى في عيد الأضحى.

في القسم، كان الأطفال نوعان:

  • نوع يُتقن ربط الحذاء في رمشة عين، وربما يُعلّم غيره،
  • ونوع مثلي، يمشي وكأن العالم سيفكّ رباطه في أي لحظة.

________________

صديقي حسام، كان بطل الحي في ربط الحذاء. يعقد العقدة، ثم يعقد فوقها عقدة أمان، ثم يعقد فوقها فلسفة كاملة. كنت أراقبه بانبهار، وأتساءل: كيف يفعلها؟ هل عنده إصبع سري؟ هل يأخذ دروسا خصوصية؟ أم أن ربطة الحذاء موهبة فطرية؟

أمي، من شدة ما ربطت لي الحذاء، كانت تقول:

"أقسم بالله نجيبلك صباط بلا خيط، ونرتاح!

وفعلت.

جاءت يومًا بحذاء بلا خيوط. فقط تُدخله قدمك وينتهي الأمر. شعرت بالخيانة.

أين التحدي؟ أين الرجولة؟ كيف أواجه حسام غدًا؟!

______________

لكنني بصراحة... أحببته. لا عُقد، لا ركوع، لا نظرات شفقة من المعلمة. فقط ألبس وأنطلق، كأبطال الكارتون.

ثم جاء يومٌ مهم. قررت فيه أن أثبت للعالم (وأقصد أمي والمعلمة) أنني "كبرت". أخذت الحذاء بالخيوط، جلست في الزاوية، وأعدت كل ما شاهدته من حسام.

أمسكت طرفي الخيط، صنعت أذنين، عبرت واحدة داخل الأخرى...

ثم – فجأة – وجدت نفسي أصفق وحدي!

_______________

ربطت الحذاء.

ربطته فعليًا. لم يكن أجمل ربط، لكن عقدتي صمدت حتى وقت اللعب، وهذا يكفي لأن أدخله في سيرتي الذاتية.

عدت يومها للبيت، وأخبرت أمي بفخر:

"شوفي صباطي... ربطتو بيدي!"

ابتسمت، وأعادت ربطه.

ربطة الحذاء لم تكن عقدة خيط فقط، بل عقدة ثقة.

في طفولتي، كانت الربطة هي بداية الاستقلال، خطوة نحو العالم الكبير.

ورغم أن أمي استمرت في ربطه لي بعد ذلك بأشهر، لكنني كنت أعلم، ويكفي

أنني ربطته مرة واحدة... وهذا يكفي ليوم طويل في حياة قصيرة.