تخيل أن ابن سينا، الفيلسوف والطبيب والعالم الموسوعي، بُعث إلى هذا العصر فجأة.
وتخيل أن أول ما قُدم له بعد قليل من التأمل ليس كتابًا، ولا مِجهرًا، بل جهاز حاسوب متصل بنموذج ذكاء اصطناعي فائق التطور: (GPT-4).
ترى، ماذا كان سيفعل؟
هل سيبدأ بطرح الأسئلة؟ هل سيحلّ لغزًا؟ أم يعيد تشكيل مفهوم "العلم" نفسه؟
هذا ليس مجرد خيال فلسفي… بل نافذة على ما يمكن أن يحدث حين يلتقي أعظم العقول البشرية من الماضي بأعظم الأدوات المعرفية في الحاضر.
ابن سينا: نموذج الإنسان الموسوعي
قبل أن نتخيل ما كان ابن سينا سيفعله بـ GPT-4، لا بد أن نعرف من هو هذا الرجل.
ابن سينا (980م – 1037م)، أحد أعظم العلماء في تاريخ الحضارة الإسلامية والإنسانية عمومًا.
كان طبيبًا، فيلسوفًا، رياضيًا، فلكيًا، وشاعرًا… كتب أكثر من 450 كتابًا في الطب والمنطق والفيزياء والفلسفة.
ما يميزه ليس فقط غزارة إنتاجه، بل منهجه العقلي الذي يجمع بين الاستقراء والتأمل، بين البرهان والتجربة، وهو ما يجعل شخصيته الفكرية قريبة جدًّا من روح الذكاء الاصطناعي اليوم.
GPT-4: ذكاء يولّد المعرفة… ولا يملك وعيًا
GPT-4 ليس إنسانًا، ولا عقلًا مستقلًا.
هو نموذج لغوي متقدم يمكنه توليد نصوص عالية الجودة بناءً على بيانات ضخمة تم تدريبه عليها.
يعرف كيف "يكتب" مقالة فلسفية أو "يحلّل" نصًّا طبيًّا أو "يفسّر" معادلة رياضية – لكن دون أن يفهم فعلًا كما يفعل الإنسان.
لكن عندما يُمنح لعقل مثل ابن سينا، فإنه لا يُستخدم كبديل للفكر، بل كأداة مضاعِفة للمعرفة، تمامًا كما استخدم ابن سينا أدوات زمانه لتطوير "القانون في الطب"، و"الشفاء"، و"النجاة".
ماذا كان ابن سينا سيبني بـ GPT-4؟
1. نظام طبي تشخيصي يعتمد على الذكاء التوليدي
ابن سينا كان يرى الطب فنًّا، وعلمًا يعتمد على الملاحظة الدقيقة وربط الأعراض بالعلل.
فلو أُتيح له GPT-4 مع قواعد بيانات طبية حديثة، فمن المرجّح أنه كان سيصمم نظامًا ذكيًّا يمزج بين الاستدلال الفلسفي والتشخيص السريري، قادرًا على اقتراح علاجات بناءً على السياق النفسي والجسدي للمريض.
نظام لا يعطي وصفة جاهزة، بل يفكر بأسلوب الطبيب القديم، ويقترح بأسلوب المستقبل.
2. موسوعة معرفية تفاعلية تعيد تفسير الكتب الكبرى
ابن سينا لم يكن ناقلًا فقط، بل مفسرًا وصاحب رأي.
بوجود GPT-4، كان يستطيع تحميل كتب الفارابي وأرسطو وأفلاطون والغزالي والرازي… ثم يطلب من النموذج أن يقدّم المقارنات، الفروقات، وتفاعلات الفكر عبر العصور.
تخيل موسوعة فكرية يقول عنها ابن سينا:
"طلبت من النموذج أن يجادلني كما كان أفلاطون سيفعل، وأن يفسّر لي نقد الغزالي لي بأسلوب ديكارت، ثم طلبت منه أن يصمت… كي أفكر."
3. مدرسة عقلية مفتوحة تتجاوز الزمان والمكان
لو امتلك ابن سينا GPT-4، لربما أسس أول "حَلَقة تعليمية لا مكانية"، حيث يستطيع الطالب أن يسأل النموذج، ويتلقّى من ابن سينا تفسيرًا، ثم يناقش مع زملائه من بلدان وأزمان مختلفة.
كان سيحوّل GPT-4 إلى شريك تعليمي وليس مصدرًا للمعلومة فقط، ويستخدمه كأداة لإشعال التفكير، لا لإطفائه.
ما الذي لن يفعله ابن سينا بـ GPT-4؟
من المؤكد أنه لن يستخدمه للحفظ فقط، ولن يسمح له بأن يُفكر بدلًا عنه.
ابن سينا يؤمن أن العقل لا يُستعاض عنه، وأن الآلة مهما بلغت لا تُنتج وعيًا ذاتيًّا أو حُكمًا أخلاقيًّا.
كان سيُخضع GPT-4 للنقد، ويختبر أخطاءه، ويحذّر من الانبهار المفرط بالنتائج دون فَهم للبنية.
وربما كان ليكتب كتابًا جديدًا اسمه:
"الذكاء الاصطناعي بين التوليد والتأويل."
ما الذي نتعلمه من هذا التخيّل؟
السؤال الأهم ليس:
"ماذا كان ابن سينا ليفعل بـ GPT-4؟"
بل:
"ماذا نحن فاعلون به الآن؟"
هل نستخدم الذكاء الاصطناعي لنتجنّب التفكير؟
أم نستعمله كما كان ابن سينا سيستعمله:
كأداة لفهم أعمق، وتأمل أوسع، وحوار حضاري يعيد وصل الحاضر بالماضي؟
خاتمة
لو أتيح لابن سينا GPT-4، لما بناه ليُبهر الناس، بل ليجعل العقل أوسع، والمعرفة أصدق، والتعليم أعمق.
والسؤال الآن:
هل نملك من نضج ابن سينا ما يكفي لنستخدم GPT-4 كما كان سيستخدمه؟
أم أننا نملك الأداة… ونفقد الحكمة؟
ربما، في هذا المفارقة، يكمن درس التعليم الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي.
التعليقات