الوعي هنا نقصد به قيام الطبيعة ببعض العمليات من أجل الوصول لأهداف معينة، سواء كانت هذه العلميات بسيطة وسهلة أو طويلة ومعقدة، ويجب على الأقل أن تحتوي على عملية واحدة ناتجها دائمًا واحد، لنشك ان من يقوم بهذه العملية لديه وعي -أعرف أن الأمر خاطئ، فليس كل ما ينطبق عليه هذا القانون يعد كائنًا واعيًا ولكن هذا هدف الموضوع-، أو هكذا يفهم بعض الناس بعض العمليات الطبيعية، وهذا هو هدف الموضوع.

أغلب الوقت تجد أحد الأطراف في جدال حول نظرية التطور يقول "التطور دائمًا يتجه نحو الأفضل، لو كان عشوائيًا كما تقولون لما كانت كل الكائنات الحالية تطورت للأفضل"، بعيدًا عن اذا كان الموضوع عشوائيًا او لا، فأولًا سؤاله هذا في الأغلب ينتج عن خلطه بين التطور وإحدى عملياته وهي "الإنتخاب الطبيعي" التي تبقي دائمًا الأفضل فلا نرى سوى الأفضل، ولكن هنا نجد بذرة أخرى، وهي ظن هذا الشخص أن العمليات التطورية موجهة، وكأن الطبيعة لها وعي، فهل هي حقًا لها وعي؟ يبدو من ردنا هنا أن هذا المثال لا يثبت اذا ما كان لها وعي أو لا، فهو يقف على الحياد.

المثال الثاني: هناك عادة نسبة ثابتة بين الذكور والاناث في التجمعات الحيوانية أو البشرية، وربما بعض البلدان، ومثلًا هنالك بعض الدراسات تقول أن نسبة المواليد الذكور تزداد في حالة قيام حرب وخسارة عدد كبير من الذكور[1] [2]، ونسبة المواليد الإناث تزداد أثناء المجاعات، وقد يوحي ذلك للبعض بأن الطبيعة توجه المواليد ليولدوا على هذا النحو، ولكن هناك بعض التفسيرات التي لا تتضمن أن الطبيعة تحرك المواليد كما تشاء، كما أود أن أنوه أنني لا أتذكر أي نص إسلامي يقول أن الله يزيد عدد المواليد الذكور بعد الحرب لتعويض الموتى، لذا فالعلم والدين هنا على الحياد، ولكن عباد الطبيعة -أفضل ان أسميهم هكذا- بفضلون القول أن الطبيعة من تزيد وتنقص، والرد ببساطة هو بعض التفسيرات العلمية للأمر، بعض التفسيرات تقول أن الأمر متعلق بالجينات وبعض الإحصائيات تقول بأن الآباء الذين كان لهم أشقاء ذكور أكثر من أشقاءهم الإناث على الأغلب سينجبون ذكورًا أكثر من الإناث والعكس صحيح، وبالتالي بمثال بسيط:

أحمد وكريم أبوان عاشا مع عائلاتهم اثناء الحرب العالمية الثانية، أحمد أب له عدد كبير من الأخوة الذكور وأنجب 3 أولاد ذكور وبنت واحدة، وكريم على العكس تمامًا وأنجب 3 بنات وابن واحد، تم أخذ أولاد أحمد وابن كريم للحرب، بالتأكيد أحمد لديه فرصة أكبر من كريم أن يعود أحد أولاده ويكمل النسل، وبعد عودة هذا الطفل على الأغلب مثل والده سينجب ذكورًا، ولكن كريم لديه فرصة أقل أن يعود ابنه ولو عاد فعلى الأغلب سينجب اناثًا، وبحساب كل هذه الإحتمالات نجد ان نسبة عودة أولاد أحمد أكبر من نسبة عودة ابن كريم، وبتكبير مجال الإحصائية من المتوقع أن يعود الذكور الذين يحملون جينات لإنجاب ذكور كثر عن الذكور الذين يحملون جينات لإنجاب إناث كثر، أتفهم أنك لم تفهم شيئًا، لذا أدعوك أن تنظر للمصدر الأول.

التفسير الثاني متعلق بالقوة الجسدية -المصدر الثاني- حيث يشرح أن الآباء الأقوى جسديًا -أو الأطول- لديهم فرص أعلى للنجاة في الحرب، ومن بعض الإحصائيات يمكننا إكتشاف أن الآباء الأقوى جسديًا ينجبون على الأغلب أولادًا، وهكذا ستزيد نسبة الأولاد بعد الحرب.

هذان فقط كانا تفسيران ليزيلا عنك الافتراض الذي يظهر في ذهنك لأول الأمر حول أنه "لا يوجد أي تفسير سوى أن الطبيعة تختار من يولد"، ولكن بالتأكيد كرجل مؤمن لن يؤثر هذا على إيمانك بشيئ لأنه ببساطة انت تؤمن أن الله هو من خلق كل ما في الكون وبما فيه جيناتنا وكيفية عملها وبالتالي فهو المسبب الأول للتفسيران بالأعلى، فهل تمتلك الطبيعة وعيًا؟

المثال الثالث: بالتأكيد نلاحظ زيادة مستمر في عدد الوفيات الناتجة عن الأمراض النفسية مثل الإكتئاب، مرض العصر التكنولوجي، وبعض الأمراض الأخرى التي بدأنا نسمع عنها أو عن أعراضها منذ زمن ليس ببعيد، وكأن الطبيعة تحاول دائمًا حصد أراوحنا ومنعنا من تخطي عدد معين من السكان، حتى تحافظ على نفسها من الدمار مثلًا، بالتأكيد يمكن شرح هذا الأمر عن طريق عدة أمور، مثل أن بعض هذه الأمراض ناتج عرضي للتطور المحتوم للبشرية، او أن بعض هذه الأمراض أصلًا مكتشفة أعراضه منذ زمن لم يكن فيه عدد البشر بهذه الكثرة ومع ذلك كانت موجودة وما نحن نقوم به هو مغالطة منطقية.

هذه كانت أمثلة خطرت على بالي أثناء مشاهدتي لأحد الفيديوهات عن الإكتئاب، شعرت بالشعور الذي أحاول دحضه في مقالي هذا، الشعور بان الطبيعة لها وعي يجعلها تحدد كم عدد البشر المسموح لهم بالعيش عليها، ولكن ببساطة بعد بعض التفكير وجدت أن فرضية "الطبيعة لها وعي" ليست الفرضية الوحيدة الممكنة، وبالتالي يجب علي إتخاذ موقف الحياد أو على الأقل لا أخذ هذه الأمثلة بالأعلى كحجة عند نقاشي مع شخص يخالفني في الرأي، يمكنني دائمًا التصديق أنها من فعل إلهي أو من فعل الطبيعة أو أنها عشوائية، ولكن إتخاذها كحجة في نقاشي مع من يخالفني في الرأي يبدو خطئًا بالنسبة لي، هل الطبيعة لها وعي؟ ربما، وربما نحن فقط نسيئ الفهم، يمكنك طبعًا إختيار الإختيار الذي يريحك لأننا نريد راحتك بعد كل شيئ، فقط لا تنتحر وتحقق رغبة هذه الطبيعة الواعية بالحد من نسلك على هذا الجحيم الأرضي.

[1]

[2]