سؤالٌ يبدو بسيطاً كحبة الرمل، لكنه يحمل في طياته عواصفَ من التناقض. لماذا، في قيظِ الشمس الذي يذيب حجارة الشوارع، تلفُّ المرأةُ جسدَها بوشاحٍ من ظلام؟ كأنما تختار أن تكونَ ظلاً في وضح النهار، أو ليلاً صغيراً يزحف فوق الأرض.

إنها ليست مجردَ قطعة قماش، بل هي لغزٌ مزدوجُ الوجه: حاجزٌ واقٍ، وسجنٌ شفاف. تلمع تحت شمس تموز كقطعة فحم متوهجة، تمتصُ أشعةَ النهار العاتية لتخبئ تحتها عالماً. كأنما المرأة تقول للشمس: "أنتِ تملكين السماء، أما جسدي فهو مملكةٌ لا تُقهر".

هذه السوادُ ليس لوناً، بل هو فضاءٌ وجودي. في ثنايا هذا القماش الأسود، تتكاثر الأسئلة كالجراد: هل هو درعٌ يحمي من أعينٍ جائعة؟ أم هو رداءٌ للاختفاء في زحام المدن؟ أم هو صمتٌ مرئيٌ يُعلن احتجاجاً على ضجيج العالم؟ بل لعله حكايةٌ قديمةٌ توارثتها الأجيال، صارت جلداً ثانياً لا يُخلع.

العجيب أن العباءةَ السوداءَ تُشبه الليلَ العربيَّ بكل ما يحمله من غموض. فهي مثل الصحراء تلفظ الحرارةَ إلى الخارج، وتحتفظ بالبرودةِ في الداخل. كأنها خيمةٌ بدويةٌ متنقلةٌ فوق الأكتاف، تُذكرنا بأن الجمال قد يكون حصناً منيعاً. وفي هذا التناقض بين الظاهر المحترقِ والباطنِ المستتر، تكمنُ مفارقةٌ وجوديةٌ تذكرنا بمسرح العبث: لماذا نصنع الأقفاص ثم نبحث عن مفاتيحها؟

أليست العباءةُ السوداءُ أشبهَ بـ "قلعة كافكاوية" نسائية؟

نظامٌ غيرُ مفهومٍ يُفرض بلا تفسير. قواعدٌ صامتةٌ تتحول إلى طقسٍ يوميٍ لا يُمس. المرأة تسير تحت الشمس كحرفٍ غامضٍ في كتابةٍ مبهمة، تتبع قوانينَ مجتمعٍ يشبه "المحاكمة" الكافكاوية: تُدانين قبل أن تفهمي التهمة.

ولكن... في هذا الالتفاف الأسود، قد تكمن حريةٌ غريبة! فحين يختفي الجسدُ تحت عباءةٍ واحدة، يثور السؤال: من هي المرأة خلف الستار؟ حين يصبح الجميعُ سواداً متشابهاً، تبرز الشخصيةُ من خلال العينين والصوت والقامة. كأن العباءةَ تصنع مسرحاً للروح بعيداً عن جاذبية الجسد.

ربما كانت العباءةُ السوداءُ مجازاً للذات العربية ، محاصَرةٌ بين شمس الحضارة الحديثة وبرودة التقاليد. تبحث عن هويتها في فضاءٍ يذيب الألوان. فهي لا تُختزل في قماشٍ أسود، بل هي لغزٌ يمشي على قدمين، وشعريةٌ صامتةٌ تقاوم بهدوء.

في النهاية، السؤال الحقيقي ليس "لماذا السواد في الصيف؟"، بل "ما الذي تخبئه العباءةُ من ألواننا الداخلية؟". ربما يومَ نستطيعُ الإجابة، تتحول العباءةُ من سجنٍ أسود إلى فراشةٍ تبحث عن ضوء.