"نحب الماضي لأنه ذهب، ولو عاد لكرهناه" ، لا أتذكر أين سمعت أو قرأت هذه العبارة لكن أشعر أنها حقيقة، كثيراً ما نسمع الناس، وخاصةً كبار السن يتحدثون عن روعة الماضي ويتمنون عودته ويأسفون على تغير الزمان، لكننا إن قارنا بين الماضي والحاضر بموضوعية نجد أن لكل فترة زمنية إيجابياتها وسلبياتها والماضي ليس أفضل من الحاضر بل له مساوؤه الكثيرة، برأيك لماذا يركز الناس على سلبيات الزمن الحاضر ولا يرون من الماضي إلا روعته الزائلة؟
نحب الماضي لأنه ذهب، ولو عاد لكرهناه
ما تقوله يسمى بعلم النفس انحياز الانحدار (Decline Bias (Declinism وهو الميل إلى رؤية الماضي من منظور إيجابي بشكل مفرط وإلى رؤية الحاضر أو المستقبل من منظور سلبي للغاية، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأمور أسوأ مما كانت عليه من قبل. مع أن الواقع والإحصائيات قد تؤكد عكس ذلك، فعادةً ما يعطي البشر أهمية أكبر للأشياء السلبية التي تحدث لنا في الوقت الحاضر أكثر من الأشياء الإيجابية. من المرجح أن يكون لشيء ما صادم تأثير قصير المدى علينا أكثر من تأثير ممتع ، يسمى التحيز السلبي، لكن عندما ننظر إلى الوراء، في ذاكرتنا وبمخيلتنا، فإن العكس هو الصحيح: فمن المرجح أن نتذكر الأشياء الجيدة والممتعة، والتي تسمى تأثير الإيجابية. ونقارنها باللحظات السيئة بحاضرنا، برأيي لو عقدنا هذه المقارنة بين السيء في الماضي والسيء في الحاضر، أو الإيجابي في الزمانين تكون الإجابة منطقية أكثر وموضوعية.
كنت ناقشت هذا التحيز بمساهمة منذ سنوات بهذا الرابط
لقد لاحظت على التناقض لدى كبار السن بشكل واضح. فجميعهم يتغنون بأمجاد الماضي وكونه أفضل بمراحل من العصر الحالي. لكن بمجرد أن تواجههم بالحقائق والأرقام يعترف بمساوئ الماضي شيئا فشيئا إلى أن يجد نفسه أمام الحقيقة التي يتهرب منها، وهي أن الحال في الماضي لم يكن بتلك الحالة اليوتوبية التي يتخيلها، وإنما كانت مساوئه كثيرة جدا كما هو الحال في عصرنا الحالي ولكن في جوانب مختلفة
هذا لأن كل جيل يكون متحيز لنفسه، بمعنى أن آرائهم لا تستند لكون أحداث الماضي أفضل ولكن لكونهم كانوا أفضل من الأجيال الحالية، فتجدهم ينتقدون أخلاق وقرارات وأسلوب وطريقة وحتى شكل الجيل الحالي وبالنسبة لهم هم كانوا الأفضل في كل ما أشرت إليه، وهذا بالمناسبة ما سنفعله نحن مع الأجيال القادمة وسيستمر المبدأ بهذه الطريقة، لأننا كبشر نحكم على الأمور من ناحيتنا وبناء على تفضيلاتنا وأهوائنا والتي تختلف من جيل لآخر.
هذا ليس تناقضا منهم و لكن الفكرة في أنا احساسك بالحزن علي أمر يحدث الان أقوي من احساسك بالحزن علي علي أمر حدث بالماضي.
فمثلا إذا فقدت قدر من المال منذ سنة و فقدت قدر من المال الان ... ما مدي شعورك بالحزن علي المال الذي فقدته الان ؟ 100%
و ما مدي شعورك بالحزن علي الذي فقدته منذ عام ؟ 50% مثلا و قد يكون منعدم.
فبالتالي عقلك سيترجم أن الحاضر هو أسوأ بالرغم من أن الخسارة متساوية.
قدرة الإنسان على التكيف مع آلام الماضي ونسيانها مع الوقت مهما كانت قاسية تعد من أكثر الأشياء المدهشة من وجهة نظري
هل يمكننا القول إن إحساسنا بأن الحاضر أكثر إيلامًا من الماضي هو مجرد استجابة طبيعية لحدة التجربة الحالية؟ أم أن الأمر يتعلق بقدرتنا على التكيف مع الماضي، مما يجعلنا نقلل من قيمته العاطفية تدريجيًا؟
العقل بطبيعته يتجنب تذكر الاشياء السيئة والصعوبات والمشاكل والمشاعر المؤذية التي مر بها لاحقا.. لذلك غالبا مانكون معميين وناسيين (جزئيا بشكب مؤقت) ألم الماضي، فنتذكر منه تلك الاشياء الجميلة والذكريات الطيبة والمانحة للسعادة والدفئ.. لكن هناك آلية أخرى في العقل، عندما يمر بتجربة ألم شبيهة بتجربة سابقة، فهو يسترجعها في ذهنه على الفور ويسترجع ذاك الشعور، في تلك اللحظة بالتحديد لو تم تخييرك للعودة للماضي لما كنت ستراه بنفس الجمال.
الماضي غالباً ما يبدو أكثر جمالاً لأننا نتذكره بعد مرور وقت طويل عليه، لكن الحقيقة أن الزمن كان يحمل تحدياته وصعوباته أيضاً. إذا عاد الماضي، ربما نجد أنفسنا نواجه نفس المشكلات أو حتى أسوأ. كثير من الناس يتجاهلون السلبيات التي مروا بها في الماضي لأن الذاكرة غالباً ما تركز على اللحظات الجيدة، بينما في الحاضر نعيش الواقع بكل تفاصيله، مما يجعلنا نركز على التحديات بشكل أكبر. لكن من المهم أن نتوقف لحظة ونتساءل: هل كان الماضي فعلاً أفضل؟ أم أننا نُجمّل ذكرياته بسبب مرور الوقت؟
بالعكس، الماضي هو مصدر تعلم كبير، حيث نأخذ منه دروسًا مهمة ونحاول ألا نكرر أخطاءه في الحاضر. عندما نتذكر الماضي، نحن لا نكتفي بحنين له، بل نراقب التغيير الذي حدث في حياتنا. نتأمل كيف كنا في الماضي وما وصلنا إليه الآن، وكيف نحقق الإنجازات وننمو. الماضي هو مرآة نرى من خلالها تطورنا وكيف أصبحنا أفضل من قبل، وهذا لا يعني أننا نعيش فيه، بل نستفيد من دروسه لبناء مستقبل أفضل.
نحن نعيش في عصر مليء بالفرص والتطورات التي كانت مستحيلة في الماضي. الحنين للماضي ليس سوى نوع من الإنكار لما وصلنا إليه، لأن بعض الناس يشعرون بالراحة في التمسك بما كان موجودًا بدلاً من التعامل مع تحديات الحاضر. التركيز على الماضي واختزاله في صورة وردية هو تجاهل لما يمكن أن نقدمه اليوم من حلول وتقدم. علينا أن نكون أكثر وعيًا بأن الحاضر هو الذي يحمل التغيير والتحسين، وأن العودة للماضي لن تحل مشاكلنا الحالية.
الحنين للماضي ليس دائمًا نوعًا من الإنكار للواقع أو الهروب من التحديات الحالية. في كثير من الأحيان، يكون الحنين إلى الماضي ناتجًا عن مقارنة مع فترة كانت أكثر استقرارًا أو أكثر بساطة بالنسبة لبعض الأشخاص، خاصة في عصر يعج بالضغوطات الاجتماعية والتقنية والاقتصادية. أ أيضا أرى أن العودة للماضي لا تعني بالضرورة "حلًا سحريًا" للمشاكل الحالية، في بعض الأحيان تكون هناك قيم أو أساليب حياة في الماضي قد تكون ذات قيمة في معالجة بعض التحديات المعاصرة.
حتى التقدم التكنولوجي قد يخلق تحديات جديدة مثل القلق الاجتماعي، العزلة، والاعتماد المفرط على الأجهزة.
أفهم وجهة نظرك، ولكنني أرى أن الحنين إلى الماضي ليس دائمًا حلًا أو إجابة للتحديات التي نواجهها اليوم. صحيح أن بعض الفترات الزمنية كانت تتميز بالاستقرار والبساطة، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نتوقف عن التقدم والتطور. الحياة في الماضي قد تكون قديمة ولا تتناسب مع متطلبات العصر الحالي.
على سبيل المثال، قبل ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كانت العلاقات الاجتماعية بين الأفراد أكثر قربًا، لكننا لا يمكننا تجاهل كيف أصبح العالم اليوم متصلًا بشكل غير مسبوق بفضل هذه التقنيات. بدلاً من أن نعود للماضي، يمكننا أن نعمل على تحسين كيفية استخدام هذه التقنيات لتقوية علاقاتنا الاجتماعية وتعزيز التواصل الفعّال.
أما بالنسبة للقيم أو أساليب الحياة في الماضي، نعم، يمكن الاستفادة من بعض الدروس المستخلصة منها، لكن علينا أن نكون واعين بأن التقدم التكنولوجي ليس شيئًا سلبيًا بالضرورة. هو أيضًا يحمل إمكانيات هائلة لتغيير حياتنا إلى الأفضل، إذا تم استخدامه بشكل سليم. التحديات الجديدة التي تطرأ قد تكون جزءًا من أي مرحلة تقدم، لكنها لا تعني أننا يجب أن نعود إلى الوراء فقط لمجرد أننا نشعر بالراحة في الماضي.
التعليقات