لماذا لا يتمكن المدمن من التعافي ببساطة؟!

ما سر تمسكه بالمادة أو السلوك الإدماني؟!

للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى واحدة من أهم التجارب العليمة عن الإدمان:

جنة الفئران وماء المورفين

والتي قرر فيها العلماء حبس فأر تجارب في قفص يقدم له فيه الماء والطعام وماء مخلوط بالمورفين، في البداية لم يكن الفأر يتناول ماء المورفين إلا قليلاً، لكنه مع الوقت غرق تماماً في شرب المورفين حتى أنه كان يهمل في طلب الطعام والنظافة الشخصية وكان ينام معظم وقته تقريباً؛

وبعد فترة قرر العالم المسؤول عن التجربة صنع حديقة مليئة بالفئران الذكور والإناث، وقام بتركهم يتكاثرون سويا حتى كونوا مجتمعا خاصاً بهم، وبعدها قام بوضع الفأر المدمن بينهم، في البداية أقبل الفأر المدمن على المورفين كما كانت عادته، لكنه مع الوقت بدأ ينخرط في مجتمعه الجديد، وبسبب هذا الانخراط نسي المورفين تماماً، وعاش حياته مع بقية أبناء جنسه دون اللجوء إلى ماء المورفين.

علاقة المجتمع بالتعافي

أثبتت هذه التجربة أن البيئة المجتمعية لها تأثير كبير على التعافي من الادمان؛

لكن توجد معضلة بسيطة:

البشر ليسو فئران، فنحن نرى من هو منخرط أصلا داخل المجتمع بقوة وله العديد من الأعمال وأسرة وعيال متعلقون به، ورغم ذلك هو مدمن وأحيانا يتعاطى مواده المخدرة بشكل يومي، أو حتى ربة منزل ترعى زوجها ومجموعة صغار نجدها تتعاطى نوعا من المخدرات ليساعدها على تحمل ضغوط الحياة اليومية

فكيف لمن هم جزء من المجتمع ولهم دور مهم فيه وليسوا منعزلين عنه، أن يكونوا مدمنين؟!

البيئة النفسية أهم من المجتمعية

وفي رأيي يعود السبب إلى البيئة النفسية للمدمن وليس البيئة المجمتعية فقط هي التي تصنع أو تعالج المدمنين.

الفأر في التجربة شعر بقيمته عندما أحس بأهمية دوره في مجتمعه الجديد، وعندما حصل منهم على الدعم اللازم، وهنا الفارق: الفئران دعمت الفار المدمن لأن هذه غريزتها، بعكس البشر الذين يمكنهم الاختيار بين المساعدة وبين التخلي أو حتى النبذ.

لفترة طويلة وحتى أيامنا هذه يعتبر الادمان وصمة عار أيا كان نوعه، رغم أن إدمان السجائر مثلاً ليس عيبا مجتمعيا ويعتبره الناس مجرد عادة سيئة، رغم أنه لا يقل خطورة عن باقي أنواع الإدمان بل هي في الحقيقة أسوأ لكونه أكثر توفرا وسهولة.

ولكن الناس تنتقي العيب بحسب ما تفرضه التقاليد والمفاهيم المجتمعية، وليس بحسب الأفضل للمصلحة العامة ولا بناء على الاخلاق والصفات الحسنة. 

ثمن الخطأ البتر

وهنا تبرز مشكلة المدمن الأساسية:

أهم فارق جوهري بين مجتمع الفئران ومجتمع البشر هي أن الفأر كان يشرب من المورفين أمام بقية المجمتع قبل التعافي ولم يهجره أحد بسبب ذلك ولم يزدريه أحد بسبب ذلك. 

أما البشر فأول ما ستواجهه منهم في أول لحظات اعترافك بمشكلتك هو التنمر، والابتزاز، والنهر، والهجران، بل وحتى الاعتداء، والتحقير، والبنذ، وستشعر أنهم يدفعونك دفعًا إلى العودة للإدمان. 

وهنا تبدأ مشكلة المدمن الحقيقىة، فحالة الضعف أمام النفس التي يعاني منها المدمن تجعله يشك في نفسه وفي قدرته على التعافي، وبالتالي يبدأ في البحث عن مساعدة للخروج من فخ الادمان، لكنه عندما يحصل على العكس تماماً ويرفضه مجمتعه، فإن ثقته في نفسه تنهار، وحينها يصدق كل وساوسه وأفكاره غير السوية، وهذا ما يفقده كل احترامه لنفسه. 

إما الهرب إلى الموت أو الدفاع عن الإدمان

فإما أن ينسحق نفسياً ويبقى في حالة خجل من نفسه وانطواء وانسحاب اجتماعي، حتى ينفر من الحياة كلها وينتحر. 

أو أن يختار الرد والدفاع عن إدمانه، ويعترف بممارسته للإدمان أمام الجميع بلا أي أسف أو خوف ليعاند المجتمع الذي رفض مساعدته، ولكنه في المقابل يغرق بشكل أسوأ في إدمانه ويرفض أي شكل من أشكال العلاج. 

أصول الإدمان الثلاثة 

إن من المهم عند التفكير في الإدمان أن نعلم أن هذا النوع من المشاكل نابع من ثلاثة أصول:

الأول: المشاكل النفسية السلوكية والتي تكون نابعة من ظروف اجتماعية واسرية خاصة بالمدمن، صنعت بداخله استعداد نفسياً للإدمان، لأن المدمن يحاول تعويض شيء ما داخلي من خلال الادمان. 

الاصل الثاني: هو المشاكل العضوية الدماغية فدماغ المدمن يعتاد مع الوقت على جرعات التحفيز العالية التي يحصل عليها من الإدمان، فيستمر الدماغ في طلب المادة أو السلوك الإدماني مهما كانت التكلفة. 

أما الاصل الثالث للإدمان فهو: دائرة عقدة الذنب، وهذا لأن المواد والسلوكيات المسببة للادمان تعتبر من الامور المعيبة التي تنتقص من مروءة الانسان وتنال من شرفه؛

وهذا الاصل تحديداً هو السبب الأهم للبقاء في دائرة الادمان، لأن المدمن يظل معظم فترة إدمانه في حالة كتمان وسرية تامة، ليظهر أمام الناس بصورة معاكسة للتي يظهر بها أمام نفسه، ما يخلق بداخله عقدة ذنب عميقة، يدفعه الخلاص منها إلى العودة للمادة الإدمانية أو السلوك الذي يخدر هذا الألم قليلاً.

التقبل أول جرعة في العلاج 

وانطلاقاً من هذه الأسس الثلالثة نفهم أن أول وأهم خطوة يحتاج إليها المدمن ليتعافى من مرضه ليست الإعتراف بالمرض بقدر ما هي أن يتقبله المجتمع ويحاول مد العون له. 

إن مجرد شعور المدمن أنه متَقبل بين أفراد مجتمعه، وإن الناس لم تنسى الجانب الحسن منه عندما شاهدوا الجانب القبيح، يعطيه إحساساً عميقاً بالإنتماء يدفعهم دفعاً إلى التعافي بأي ثمن. 

القيمة هي التي تحدد الهدف

فالمشكلة كلها تتمحور حول المعنى الذي يؤمن به المدمن، فإن كان يؤمن بأن له دوراً وأهمية في المجتمع، فإنه سيحاول الحفاظ على هذا الدور بأي ثمن، لأنه لا يريد أن يتضرر أحد بسببه على الاقل. 

أما عندما يفقد المدمن الإيمان بهذا المعنى فإنه لا يتمكن من التعافي حتى وإن حاول، لأن الدافع النفسي العميق غير موجود، وهو الذي يكون كالمحرك بالنسبة للسيارة، فلو كانت السيارة مليئة بالبنزين فبدون محرك لن تبارح مكانها. 

الفئران أكثر عقلانية

للأسف الشديد تفوق مجتمع الفئران على مجتمع البشر في هذا الشأن، فكان مجتمع الفئران أكثر تقبلاً للفأر المدمن من مجتمع البشر الذي ينبذ المدمنين ويحاول إبعادهم.