في عالم يتسارع فيه ركب الحضارة، وتُسجل الشعوب تقدمًا عظيمًا في مختلف مجالات الحياة، قد يعتقد المرء أن القيم الإنسانية والأخلاقية قد تواكبت هذا التطور، ولكن الواقع أحيانًا يكشف لنا حقائق مؤلمة، ويجعلنا نقف حائرين أمام ما يحدث.

في تلك الليلة، كنت في سُبات نوم عميق أسير في عالم من الأحلام، حينما قطع سكون الليل صوت ذو قسوة، صوت سيارة إذ اصطدمت بعمود الإشارة المرورية، ثم تأجّجت الأجواء بأبواقها المرتفعة كل الحي، ضاجّة بأثر الحادث، انتزعني الصوت من نومي وهرعت مسرعًا نحو نافذة غرفتي، التي تطل على الشارع الرئيسي، لأكتشف مشهدًا مرعب لن يُمحى من ذاكرتي.

ما رأيته كان شخصان يخرجان رجلًا مصابًا من سيارته، ولكن ما كاد قلبي يرتجف من الخوف حتى رأيتهم يلوحون بآلة حادة (سكين)، ويبرحونه ضربًا وطعنًا بلا رحمة وإصابته بجروح بليغة في جسده، تجمدت في مكاني، حيث سيطرت عليَّ مشاعر الفزع والذهول

تركوه طريحًا غارقًا في دمائه، واندفعت سيارتهما بعيدًا كأنهما لم يرتكبا جريمة.

اندلعت الفوضى في الحي وبدا أن أحد سكان الحي أبلغ الشرطة عن الحادث، لكن تلك كانت بداية تجربة مؤلمة، جاءت الشرطة بعد فترة وجيزة، وهرعنا جميعًا لمساعدة الرجل الذي كان يتألم ويصيح لأخذه إلى المستشفى، ولحسن الحظ كان في الجهة المقابلة مستشفى، ولكني تفاجأت حين قوبل تقدمنا بأمر صارم من الشرطة بالرفض: "لا تلمسوه!"

تساءلت حيال ذلك قائلًا: "لماذا لا يمكننا مساعدته..؟! إنه يكاد يموت ألا تراه يتخبط في براثن الموت..؟!

لكنهم أصروا أن هذا ممنوع، وأن القوانين هنا تجبرنا على انتظار الجهات المختصة فقط علينا إلا أن نبلغ الجهات المختصة وهم بدورهم سيهتمون بالأمر!

خاطبني الشرطي قائلًا: أهدأ أبلغنا الهلال الأحمر وهو في طريقه إلينا الآن.

ولكني يا سيدي وصول الهلال الأحمر قد يستغرق ساعات إلى أن يصل، أنظر، المستشفى بالجهة المقابلة لك يوجد فيه كامل الخدمات.

شعور مرير غمر المكان بحجم الإحباط، بينما كان الرجل، مع كل لحظة، يقترب من نهاية حياته وهنا تكمن الكارثة.

كانت كلماتهم فقط نطبق القانون، كيف يمكن لقوانين مثل هذه أن تكون موجودة في عالم يتحدث عن الإنسانية والتقدم..؟ حضر الجميع في حالة من الذهول، بينما الوقت يمر كان ملك الموت ينقض عليه ببطء، ونحن، والجميع يراقب الرجل وهو يقاوم الموت، لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة أمام عيني وصراخه يملئ المكان، ورعشة جسده.

كانت الشرطة تلتقط الصور، كنا نحن مبتوري الأيدي، عاجزين عن أي فعل، شعرت بخيبة أمل وفقدان للإنسانية في قلبي.

أي قانون يجعل الإنسان يموت أثناء انتظار المساعدة..؟! أي نص يبرر ترك شخص ينازع الموت..؟ أين إنسانيتنا ونحن نرى هذا المنظر الأليم..؟

كان في قلبي سؤال يدور في ذهني: أي قانون يسمح برؤية إنسان ينازع الموت ونحن مقيدون؟ وكيف يمكن للنظام أن يكون أكثر أهمية من حياة إنسان..؟ كيف يتم تبرير هذا العجز..؟ لا يمكنني أن أفهم كيف يسمح قانون ما بأن تُترك الأرواح معلقة انتظارًا لأحد، بينما نحن هنا، ننظر ونعجز عن التصرف،

إن الجوانب السلبية لا يمكن التغاضي عنها، فهي بمثابة تجارب مؤلمة تذكرنا بأنه مهما بلغ بنا التطور، فإن قيم الإنسانية والأخلاق هي ما يجب أن نحافظ عليه.

من هذه القصة، استنتجت أن الشعوب، رغم ارتقائها وتقدمها المدني والتكنولوجي، لا تزال تفتقر إلى المبادئ الإنسانية والأخلاق إن القوانين، مهما كانت صياغاتها متقنة، إذا لم تكن متجذرة في الأخلاق والإنسانية، فهي مجرد كلمات بلا معنى

إن ما نحتاجه كأفراد وجماعات هو تغيير حقيقي، حيث تندمج الأخلاق مع القوانين، ويتعزز الحس الإنساني في قلوبنا.

لكل قانون هدف، ولكن إن كان ذلك الهدف يسيء إلى إنسانيتنا، فأين العدل؟ إن تطور الدول يقاس بمدى احترامها للحياة والدعوة إلى الأخلاق، أما التطورات الأخرى، فلا تجلب لنا النفع الحقيقي إن لم نُقم وزنًا لحياة الإنسان.

تركني هذا الحادث مع شعور عميق وحيرة قائمة كيف يمكن أن نتذرع بالقوانين على حساب أرواح البشر.

أسأل الله أن يشملنا جميعًا برحمته.

فكري محمد الخالد