يكاد غالب المحتوى الذي نستهلكه أن يكون في قالبين، أحدهما يندرج تحت اسم انحياز المكان، والآخر انحياز الزمان.

انحياز المكان

الذي تعنيه هذه العبارة، هو أنّنا ننحاز في استهلاكنا للمحتوى للمكان الذي نتواجد فيه، وهذا كان من مشاكل العصور القديمة. حيث أنَّ الأفكار المتداولة غالبًا ما كانت محلّية.

إذا أردتَ التعرّض لأفكار جديدة، يجب عليك أن تُسافر وتصرف الأموال، أو تنتظر أن يصل لك كتاب ما من تلك البلدان مع أحد التجّار.

لهذا كان من الصعب أن يتعرّض الفرد المحلي لغير أفكار مجتمعه، وكان من الصعب أن يقرأ غير الكتب التي كُتبت منذ قديم الزمان، سواء في الدين والفلسفة وغيرها.

انحياز الزمان

مع عصر السرعة الرقمية، يكاد أن يختفي انحياز الزمان إلى الأبد، فأنت بتصفّح لوقت بسيط ستتعرّض لأفكار من كافّة البلدان والثقافات.

تولّد نتيجة عصر السرعة انحياز أخطر، وهو أنحياز للزمان، أي أنّك دائمًا ما تقرأ المنشورات الحديثة، جرّب أن تحصي ما تراه كل يوم، ستجد أنَّ السواد الأعظم أُنتج قبل 24 ساعة، من منشورات فيسبوك وستوريات انستغرام وسناب جات ورسائل تواصل. عدد قليل فقط من المحتوى الذي تتعرّض له أُنتج قبل 10 سنوات، ولا تكاد ترى محتوى قبل 100 سنة أبدًا.

مشكلة انحياز الزمان

مشكلة استهلاك المحتوى من هذا النوع، هو أنّك ستبقى عالقًا في الحاضر الذي لا ينتهي، في الأخبار المتجدّدة والترندات الصاعدة.

الذي يزيد الطين بلّة، هو أن طريقة استخدامنا للهواتف، والتطبيقات الشائعة تفرض علينا انحياز الزمان هذا بطريقة افتراضية، فالهواتف لا تُسهِّل استهلاك المحتوى القديم، إلّا لو كنّا يقظين وحدّدنا المحتوى الذي نريد استهلاكه.

أفكار صمدت أمام اختبار الزمن

مشكلة انحياز الزمان هو أنّه يقلّل تعرّضنا للأفكار العظيمة، أفكار تلك العقول التي تتضمّن طبقات عميقة من التفكير والتجربة، والتي لا زالت باقية صامدة رغم قدمها.

تلك الأفكار تُحفّز العقل، وتجعله يولّد أفكار أفضل من عنده. لهذا تجد الجيل الحالي رغم وفرة ما يمكن أن يصل له من معلومات، إلّا أنّه يفتقر للاطلاع العميق في الكتب العريقة، والأفكار التي صمدت أمام اختبار الزمن.

المحتوى الحديث سطحي

معظم المحتوى المُنتج بشكل حديث يكون سطحيًا، تلك الترندات التي تستحوذ على الانتباه مُصمّمة لحلب أكبر كميّة من ردود الفعل العاطفية من عقلك، معظم ذلك المحتوى قد أُنتج خوفًا من "ديد لاين" قريب، أو رغبة في شُهرة سريعة.

هل تثق في محتوى وقتي كهذا ليغذِّي عقلك؟ البحار البارع لا يُعير اهتمامًا كبيرًا بالرياح العاتية، لأنّه يعرف أنّها وقتية، لكنّه يولي الاهتمام الأكبر بالتيارات والأمواج المائية، هذه تكون أقل ظهورًا للناظرين، لكنّها ما تجعل الرحلة تمرُّ بسلام.

الثورة على انحياز الزمان

قد لا يكون ممكنًا أن نتجنّب قراءة كل المحتوى المُنتج بشكل حديث، فقد يكون في بعضه أخبار مهمّة لنا، لكنَّ المهم سيصل لك رغمًا عنك، وسيشيع بين الناس وأحيائهم.

يُمكن أن تثور على انحياز الزمان بأن تزيد من استهلاك الكتب القديمة مقارنة بالمنشورات الحديثة، أن تُعرِّض نفسك لتلك الأفكار والتيارات المائية الثابتة والمستقرّة، وأن تكفّ عن ملاحقة عواصف الرياح الزائلة.

يمكن أن تثور على انحياز الزمان بأن تُفكّر كيف سيكون أثر ما تستهلك بعد سنة، خمسة وعشرة سنوات؟ هل سيبقى الموضوع ذا أثر، أم أنَّ طلاق هذا الزوج، خسارة هذا الفريق وافلاس تلك الشركة، لن يستحق أن يكون شيئًا يُذكر بعد سنة من الآن!