جلست في المقهى وحيدا و طلبت فنجان قهوة, مرت علي لحظة شرود طيلة, بعد قليل وضع النادل فنجان القهوة أمامي و قطعتي سكر خارج الفنجان. تاهت نظراتي في قطعة السكر حتى وجدت نفسي أكلمها! سألتُ قطعة السكر :"قولي لي يا حُلوة, لو خيّرتُكِ مثلا, يعني لو كان القرار بِيدك هل تفضلين أن أغمِسكِ في فنجان القهوة أم تحبين أن تفري بجلدِك أو بالأحرى "كْلِيكوزِك" و تعيشي سُكرة حرة طليقة تخاصم عصابة الفناجين اللعينة؟".
_فأجابتني "يا سيدي,أنا ما خُلِقتُ إلا لأذوب في قيعان الفناجين, هذا قدري و أنا راضية به, نعم!! لا أتخيل مصيرا آخر لي غيرَ الزواج بحبيبي الموعود. هل تريد أن أخبرك باسمه؟ اممم حسنا! اسمه "كافيين", و أنا أنتظر بفارغ الصبر أن يعترف لي بحبه في قعر الفنجان. و نذوب بعدئذ في بعضنا عِشقا. اممم..أنا أنتظر هذه اللحظة و أحلم بها منذ كنت نبتة شمندر في ذلك الحقلِ البعيد. من فضلك يا سيدي, أزح عني ملعقتك اللعينة و دعني أهوي. و إن كنت تريد الإقلاع عن السكر و تُقايض سلامة صحتك بِمرارة قهوتك, فليس اليوم من فضلك!!".
حققت للسكرة الحالمة أمنيتها و ألقيتها في قعر الفنجان, بعد لحظات تفاجأت بنحلة تحط على حواف فنجاني دون استئذان, فبادرتها بالسؤال: "قولي لي يا نحلة, ألا تعتقدين انك تُجازفين بحياتك عندما تحُطّين فوق فنجاني؟؟ ألا تخشين أن تغرقي و تهلكي يا سيِّدةَ العَسل؟؟
--أجابتني قائلة:" يا سيدي لقد شممتُ رائحة قهوتك العطرة على بُعد أميال بعيدة, كنت حينها بِمعية سربِ نحل في مهمة روتينية نرتشفُ رحيق أزهار تلك الحديقة التي اعتدنا الذهاب إليها منذ اليوم الذي استطاعت فيه أجنحتي التحليق بي. لا أخفيكَ يا سيدي, لقد أصبحتُ أشعرُ بِرتابة قاتلة. أليسَ من حقي أن أتساءلَ هل قدري هو فقط عبارة عن خطّ مستقيم بدايته خلية نحلٍ و منتهاه حديقة الأزهار!! مجرد روتين يومي لعين!! هل قدرُ العسل الذي أنتِجهُ أن يكون له طعمٌ و مذاق واحد لا يتغير؟؟ لقد أحسستُ برغبةٍ جامحة في تغيير شيء ما من هذا الروتينِ البئيس. لقد كانت رائحة قهوتك بمثابة إشارة. أو دعني أقل نداء, أو شيء من هذا القبيل. حاول أن تفهمني يا سيدي! لستُ مثل سكرتك اللعينة!!".
--فأجبتها :"اممم...تبدين نحلةً استثنائية. لا أدري هل شُجاعَة أم مُتهورة! أعرف أن تخصصك الأزلي هو صناعة العسل, لكن في الاقتصاد هناك مبدأ راسخ يقول "كلما زادت المخاطرة زاد العائد" و من الواضح أنك مستعدة لمواجهة عواقب تطفلك على فنجاني. و يبدو أنكِ هجرتِ حديقتك الآمنة و أزهارها الوديعة و اخترتِ أن تغامري بحياتك البئيسة من أجل ما تسمينه "تغييرا". لن أُؤذيك, لكن تحملي تبعات قرارك".
تنازلت عن فنجان قهوتي, و تركت النحلة ترتشف منه و تطفئ عطشها و تروي طموحها و تُثبِت ذاتها. بعد لحظات تفقدت الفنجان, فوجدت النحلة تطفو فوق الكأس و قد فاضت روحها.
لا أدري هل النحلة قتَلها طموحها الجارف. أم هي من قتَلتْ خوفها و روتينها البائس. و لا أدري أيضا هل قطعة السكر جبانة أم أن استسلامها لمصيرها هو حكمة خفية.
التعليقات