ظننتُ سابقًا أنَّ من أهمّ الأسباب التي تجعل الناس متمسّكين بحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، هو كثرة ذكرياتهم في تلك المواقع، فكلّ شيء من أحداث وصور ومواقف محفوظ هناك، ولا يريدون خسارته بضغطة زر. واتضح أنِّي كنتُ مخطئًا.

الذي فعلته شبكات التواصل، هي أنّها نقلتنا من عهد ندرة الذكريات، حيث كل صورة نعتزّ بها ونحفّها بالصون في ألبوم مغلّف، إلى عهد فرط الذكريات، حيث لنا ألوف من الصور، ومساحات تخزينية رقمية لا تُعدُّ ولا تُحصى.

عندما تزداد هذه الذكريات، تصبح أقل أهمية في العيون، أترى كيف يحفلُ الكبير بصديقه الذي أعاد الفيسبوك له علاقته معه بعد أن فقده من أيّام المدرسة؟ ألا ترى أنّك "بارد" باتجاه اصدقاء مدرستك القدامى؟ تعرف أنّهم موجودون معك على الحساب، لكن ليس بينكما شغف للقاء؟

هذا لأنّ الشيخ كان يعيش في عهد ندرة الذكريات، كان الذي يفارق صديقًا لا يراه بعد ذلك، وهذا هو الجوّ السائد، وإن صدفوا بلقاء، ولو على منصّات التواصل، تجد لهما لهفًا وشوقًا، أما أنت فنُشِّئتَ في عهد وفرة الذكريات، وصديقك القديم يبقى معك، والجوّ السائد ان يبقى كلّ الأصدقاء على "التايم لاين" فهذا وصال موجود دائمًا، فهل يعود هناك شيئًا مميزًّا؟ فالكلّ سيان، والكلّ متوفر.

هذا حصل مع البشر في عهد الكتابة، بعدما كان الناس من قبلها يعتمدون على الأحاديث الشفهية، ويحاولون تذكّرها بشتّى الطرق، وعندما أتت الكتابة قيل أنّها ستُريح الذاكرة، لكنّ سقراط كان يقول أنّ الكتابة ستُجهز على الذاكرة وتُكثر الاعتماد على الورق، وتجعل الناس يخلطون بين تعلّم المعلومة وكتابتها في سطور، ولقد نُقِد في هذا، فالكتابة من أسس وصولنا إلى هذه الحال اليوم، لكنّنا لو رأينا لنقده من ناحية من النواحي، فلقد كان محقًا.

كذلك الحال مع الصور الفوتوغرافية المطبوعة، كنّا نحفل بها جدًا، لكن لمّا وصلت الهواتف وأصبحنا نلتقط المئات من الصور، لم تعد الصور نادرة، وشعور "مسح" صورة من الاستوديو، ليس كشعور تمزيق صورة ملموسة.

هل سبق لك وإن عشت في عصر ندرة الذكريات؟ كيف تُقدِّر ذكرياتك في عصر وفرة الذكريات؟