لعلّ أبرز ميزة لدى العرب هي حبّهم التدخل في حياة الآخر.
المجتمع العربي بطبعه من المحيط إلى الخليج متداخل الأفراد أكثر من اللازم، أين يمكن أن تجد جارك يحشر أنفه في أمورك الخاصة بكل إحساس تام بالأحقيّة في فعل ذلك.
إن ومن المكتسبات التي تفرضها المتغيرات الإجتماعية في كلّ العالم، أن يكون المرء مهتما بنفسه أكثر من أي وقت مضى. فلم يعد للكثير وقت للراحة كي يستنزفونه على القيل والقال وعن فلان وعلّان. ولعل مستويات البطالة المرتفعة في العالم العربي ساهمت كثيرا في تفشي ظاهرة التدخل في شؤون الغير.
فالشاب الذي يجد نفسه عاطلا عن العمل، في يده سيجارة وفي أخرى فنجان من القهوة أو أرغيلة مثلما هو الحال في المشرق العربي، يجد لنفسه أكثر مما يريد من الوقت الذي لا يعرف كي يتصرّف به. فلا مدارس علّمتهم القراءة منذ المهد، ولا بيئة مواتية تدفعهم للعمل الحر على الأنترنت الذي لا يستخدمونه إلا للدخول إلى مواقع التواصل أو مواقع الجنس التي ثبت في كثير من الإحصائات أن هذه الأخيرة تلقى رواجا واقبالا أكثر في الدول العربيّة منها في الدول الأجنبيّة.
والعامل النفسي يلعب دورا مهما في جعل الشخص يتحدث عمّا لا يجب أن يتحدث عنه خاصة فيما يخصّ الآخرين من جيرانه أو أقرابه أو معارفه أو أصدقائه. فلنأخذ على سبيل المثال شخصين يتحدثان عن الرياضة، فيكون واحد منهما غير مهتم بها، فتجده في أضعف الإيمان يتبادل بضع جمل عن الموضوع قبل أن يطلب من الآخر تغييره لأنه لا يحب الحديث عن الرياضة.
معنى المثال أن قلّة اهتمام المرء بشيء ما يبعده عن الحديث حوله، وإن كنّا نرى الناس في الشارع يحبون الحديث عن الطالع والنازل من الآخرين فلأنهم مهتمون بهم. أو بتعبير أدق يمكن أن نقول أنهم غيّورون.
الغيرة شعور طبيعي لدى جميع البشر، ينشأ عندما يريد المرء شيئا ما بشدّة لكنه لا يحصل عليه، فيرى آخرين وفي يدهم الشيء الذي يرغب فيه بقوّة، فيتولّد هذا الشعور البغيض فيه ويجعل المعدة تنقلب مرّات ومرّات.
الشاب العاطل يحسد العامل فيتحدث عنه، الفتاة تحسد الأخرى الأجمل منها فتتحدث عنها، والشخص الأعزب يحسد المتزوّج فيتحدث عنه، والحبيب يحسدسعادة حبيبته أو حبيبه السابق فيحسده أو يحسدها...وغالبا ما يترافق هذا الحسد بجملة من الأكاذيب والكلام اللاذع والنابي.
وهذه المقدّمة تمهيد للسؤال القوي هنا.
لماذا يميل العربي إلى تكفير الآخر ؟.
أولا دعنا نعلاج المعطيات في شقيها، الأول الدين بصفة عامة والذي يكون متشددا في الأساس مقارنة بالحضارة المدنيّة المعاصرة، والثاني وهو صراع هذا الدين المتشدد مع المتغيرات الكثيرة في العالم المعاصر والتي تلقي بظلالها مباشرة على تكوين وعي المسلم عامة و العربي خاصة.
يكذب من يقول أن الدين الإسلامي ليس بدين متشدد. نحن نكرّر يوميا كلمة "تنظيم داعش المتشدد" أو "تنظيم طالبان المتشدد" أو "تنظيم الجيا المتشدد" أو "تنظيم الإخوان المتشدد". لماذا نقول كلمة متشدد ولا نقول كلمة كافر. فقط لأن الجميع يعلمون بأن هؤلاء الناس إنما هم يطبقون الإسلام بحذافيره دون إنتقائية مثلما يفعل بقيّة البقيّة. وهو حال الكثير من الجماعات مسيحيّة متشددة كـ"جيش الرب" "و" فينس الكهنوتية" و"فرسان الهيكل" سابقا، وكثير من الكنائس المحليّة والمشيخيات المتشددة والتي تقابلها المساجد والمذاهب المختلفة في الإسلام.
ليس قطع يد السارق بشيء غريب عن الإسلام لكنه لا يطبّق سوى من طرف المتشددين، وكذلك رجم الزانية، ورمي المثليين من المباني، وقتل غير المسلمين...لكن معظم هذه القوانين باتت لا تطبّق حاليا ولا أحد يتحدث عن تجميدها وغض البصر عنها رغم أنها كلمة الله قبل كلّ شيء.
السبب في ذلك أن المجتمع الذي كان سابقا عبارة عن قبائل قليلة وعشائر صغيرة أصبح أكبر وصار إمبراطوريات ثم دول كثيرة كلها منفصلة عن بعض بحدود جغرافية لكنها متصلة ببعض بفعل التكنولوجيا والمعاهدات الدوليّة والمواثيق التي يُوّقع عليها...هذا التقارب والانفتاح سمح للعرب بأن يتوافقوا جميعا ضمنيا دون كلام صريح عن غض البصر فيما يخصّ الآيات والأحاديث التي يتغنّون بأخرى مثلها يوميّا.
صراع الإسلام مع العولمة دفعه للوراء كثيرا، وهو في طريقه عاجلا أو آجلا إلى الإنحصار في دائرة المريدين له بإخلاص تام مثله مثل المسيحيّة والبوذيّة وغيرها التي وما إن انفصلت عن السياسة حتى عرفت حجمها وأتباعها المخلصين حقا وأصبحت في حدود ضيقة لكن بصحبة كل شخص يؤمن بإخلاص وليس بإكراه.
الحديث هنا عن الحداثة وكيف أثرت على الإسلام وجعلت مطبقيه يغلقون أعينهم عن بعض أحاديثه وآياته، وكذلك العنصر البسيكولوجي الذي ذكرناه أعلاه يقودان إلى جواب مباشر عن لماذا يميل العربي إلى تكفير الآخر ؟.
هناك بعض المشارقة الذين "يتهمون" سكان المغرب العربي بالعولمة والابتعاد عن الاسلام، وهناك آخرون "يتهمون" اللبنانيين أو التونسيين أو الجزائريين "بالإنفتاح" و"التشبه" بالغرب.
إنما المرء يقوم بفعل ما عندما يعرف بأن لفعله عائدات مرضية عليه. لكن ماذا لو أردت الخروج من المنزل في يوم عاصف وأردت بشدة الاستمتاع على شاطئ البحر بالشمس لكنك عالق في المنزل بسبب عاصفة ثلجيّة، وفي التلفاز تشاهد الناس في جنوب الكوكب يستمتعون بالشمس، الرغبة في أن تكون مكانهم أول ما يخطر ببالك. لكن وإن أضفنا ضغطا نفسيا رهيبا لوقت طويل على ذلك الشخص الذي يريد الخروج، فتدوم العاصفة الثلجية لأسابيع فيصير كلّه غاضب وكلّه حانق على كل شيء وخاصة على هؤلاء الذين يستمتعون بحياتهم على الشاطئ يوميا.
إن المثل ينطبق على الضغط المتواصل الذي تطبّقه بعض الاحكام في الإسلام على المرء المتديّن وغير المتديّن، والذي يشاهد أناسا آخرين أقلّ التزاما منه وهو ما يريده بشدّة لكنه لا يقدر على ذلك.
من الطبيعي أن تجد الفتاة في إيران تحسد فتيات مسلمات أخريات لا تفرض حكومات دولهنّ عليهنّ وضع الحجاب، ومن الطبيعي في أفغنستان سابقا أن تجد المرأة تحسد المرأة في دول أخرى على خورجهن لوحدهنّ، ومن الطبيعي أن تجد المرأة في السعوديّة تحسد النساء الأخريات في العالم العربي لأنهنّ يقدرنّ على السياقة والسفر دون محرم، ومن الطبيعي أن تجد الرجل في السعوديّة أيضا يحسد الرجل في الجزائر على لبسه الشورت، بسبب قانون الذوق العام في السعوديّة الذي يغرّم من يلبس لباسا "غير محتشم"، ومن الطبيعي أن تجد العائلة العربيّة برمتها تحسد العائلة الأجنبيّة على قوانين مكافحة العنف ضد المرأة، والميراث، والاغتصاب الزوجي خاصة.
تحصيل الحاصل من كل هذا، هو شخص غيّور تراكمت مشاكله الاجتماعيّة على مشاكله الشخصيّة، وعلى كمّ هائل من تناقضات دينيّة مع واقع حديث ومختلف تماما. ومع فقدان كل الرغبة في التغيير، وتحوّل هذه المشاكل إلى مشاكل مزمنة، يسهل على هذا المرء بما كان نفث سحابة دخان من سيجارته في الهواء والقول بكل ثقة زائفة.
" ذلك كافر وجهنّم مصيره" " تلك كافرة وجهنّم مصيرها".
للتواصل مع الكاتب :contacwriter@gmail.com
التعليقات