التحدّث بأكثر من لغة في وقت واحد أصبح قضية شائكة وهناك اتجاه قوي للإنكار على من يستخدم لغة غير العربية في سياق الحديث اليومي قد يصل حد التشنيع وإطلاق اتهامات متنوعة بعدم الانتماء والانتصار لثقافة الأجنبي وغيرها. هذه المساهمة ربما توضّح ما أقصده:

قبل كل شيء، لنأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن اللغة ظاهرة معقدة جدا وربما تكون أعقد الظواهر البشرية إطلاقا.

هذه الحالة تعتبر ظاهرة لغوية إدراكية لدى المتحدّثين بأكثر من لغة وتسمى التناوب اللغوي Code Switching. وفيها يحدث أن يبدّل المتحدث بين لغتَين أو أكثر في سياق حديث واحد. إذن فهي ظاهرة حقيقية يعترف بها علم اللسانيات وترتبط بظواهر أخرى معرّفة في علم الاجتماع كالازدواجية اللغوية.

.

بعيدا عن التحليلات العلمية، لنتحدث بمنطقية. معظم الدراسات الرسمية والتعلم الذاتي مقدّمة باللغة الإنجليزية. معلومات كثيرة ومفردات ومفاهيم بأكملها تترسّخ في ذهن الفرد بلغة أجنبية وقليل منّا من يبحث عن مقابلها العربي -والذي قد لا يكون موجودا من الأساس. لذلك فمن المتوقّع جدا أن نستخدم لفظًا أو حتى جملة كاملة باللغة التي تعلّمنا بها هذا المفهوم. إضافة إلى أن كمَّ المصادر الأجنبية الكبير يغرينا بالبحث عمّا نعرفه باللغة العربية ويحوّل المفاهيم في أذهاننا إلى اللغة الأخرى.

وباعتبار حقيقة تعقيد اللغة، فإن تصوير الأمر كمجرّد محاولة للتباهي أو لتصنّع الثقافة سطحي جدا. كما أن تقديم مثال على القضية المُشار إليها بالكتابة ليس منطقيا، إذا أننا نفكّر أكثر ونملك الوقت لمراجعة وتنقيح كتاباتنا وحتى للبحث عن المفردات والتراكيب اللغوية المناسبة، وهي ميزات لا تتوفر عند الحديث. لقد استخدمتُ القاموس أثناء كتابة هذه الفقرة لإيجاد مرادف Show off -أي التباهي- وهذا ما لن أفعله بالطبع لو كنت أتحدث! فضلا عن البحث عن الاسم العربي للظاهرة نفسها.

.

من المثير جدا معرفة أن أكاديميين كثيرين في بدايات القرن العشرين كانوا ينظرون لهذه الحالة كاستخدام متدنٍ وسلبي للغة -بالضبط كما ينظر إليها كثيرون اليوم- واستغرق الأمر عقود لتُفهم كظاهرة طبيعية ومنتج متوقع للتلاقح الثقافي بين اللغات والمجتمعات.

.

لست أُنكر حقيقة استخدام بعض الناس للغات أجنبية من باب التفاخر لا غير، ولكن تعميم هذا الظن وإغفال الحقائق العلمية لا يجوز. ولأولئك الذين لا يفهمون لغة ما أو يسبب لديهم الخلط إشكالا في الفهم لا بأس في أن تطلب توضيحا.