"ذهب بوجه كوجه العذراء يوم عرسها وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلية الظامرة، وذهب بقلب طاهر نقي يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنيها، والنقمة على السماء وخالقها،وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها، وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئا فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها، وذهب برأس مملوء حكمة ورأيا وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملؤه إلا الهواء المتردد، وذهب وما على وجه الأرض أحب إليه من دينه ووطنه، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما"

هكذا وصف مصطفى لطفي المنفلوطي أولئك الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار الغربية إلى أوطانهم، فيقول "إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم".. فإزاء إقامتهم هناك رأوا التقدم والحضارة والتكنولوجيا في خدمة الإنسان، وتعرفوا عن قرب على الحرية. فأصبحوا نادمين على السنين التي أفنوها في البلدان العربية "المتخلفة" وانغمسوا في ذلك المستنقع المغلف بالذهب والمرصع بالألماس واللآلئ.

والحقيقةأننا كشباب نطمح إلى الهجرة إلى الخارج والتعلم هناك خصوصا بالنسبة لأصحاب الشعب العلمية، لأن تلك البلدان توفر لهم البنية التحتية للبحث العلمي وإنجاز التجارب واختبار النظاريات وتفتح لهم آفاقا واسعة وفضفاضة، فأنا كطالب مجد ومتميز، أليس من حقي أن أنعم بكل هذه الامتيازات؟

ولكن سرعان ما تتصاعد أصوات الأهل والناس عامة: أنتم خائنون لأوطانكم، لقد تغذيتم من ثمار أشجار الوطن وشربتم مياه ينابيعه وتعلمتم في المدارس التي بنيت لكم من أموال الشعب، فكيف لكم أن تتركوه بهذه البساطة؟ وكيف لكم أن تسمحوا للأوطان الأخرى بأن تقطف ثمارا يانعة وجاهزة سقتها أوطانكم بعرق جبينها ودماء شهدائها؟ ناهيك عن تخوف الأسر مما قد يلحق بأخلاقك ومعتقداتك نتيجة تعاملك مع أناس بدون قيود ولا أعراف.

ولقد أطلت التفكير في الموضوع ولم أستطع أن أصل إلى جواب واضح ومرض لخاطري، هل قراري بإتمام دراساتي العليا في الخارج ومن ثم العمل هناك -نظرا لانعدام التخصص الذي أفضله هنا في بلدي- نكران جميل أم ضرورة مفروغ منها؟ وهل يمكن لتلك الديار أن تقودني إلى ما تحدث عنه الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي من انحلال أخلاقي واجتماعي؟ أم أنني سأكون قادرة على الحفاظ على مبادئي وقناعاتي رغم كل شيء؟