تعيش معي وبين أضلعي و لا أعرف شيئا عنها، بل إنني لا أعيش من دونها حتى ولو لثانية واحدة، لكنني أجهل تماما أي أمر بخصوصها. نعيش كلينا في نفس المكان، و نتشارك كل شيء كأننا توأمان سياميان، و رغم كل هذا و ذاك فنحن مختلفان كل الاختلاف.

نكمل بعضنا البعض، و نشتغل سويا من أجل إنجاح مهامنا كل حسب اختصاصه و خاصياته، إلا أنه لم يسبق لأي واحد منا أن تدخل في نطاق الآخر. قد يساعد بعضنا البعض، كما يمكنه أيضا أن يتخلى عنه، لكنني أعلم علم اليقين أنها إن هي تركتني فتلك نهاية وجودي في هذا العالم.

منذ متى التقينا؟ و كم مضى من الوقت على نشأة رباطنا المقدس؟ بكل صراحة، فليست لدي أدنى فكرة. من أي معدن من الناس تكون؟ و هل لي عليها من سلطان؟ أم أنها هي من تمسك زمام حياتي؟

إن كانت هذه التساؤلات عبارة عن أسئلة امتحان معين، فأسرجع الورقة للمصحح بيضاء ناصعة البياض.

هذه المرة، قررت أن لا أحترق لوحدي بسبب كثرة الاستفهامات الوجودية، و انتظرتها بكل شوق حتى عادت متسللة من إسراءها اليومي الذي تفارقني فيه، ففاجأتها و باغتها من دون مقدمات :

" بالله عليك يا روح ! بحق الأيام و الليالي و بحق كل غال، أرجوك أغيثيني من كثرة تساؤلاتي... أنا البدن الضعيف من غير حول و لا قوة، أسألك بالله أن تشبعي فضولي و تروي ضمأ حيرتي...رجاء و ليس أمرا، حدثيني عنك ولو يسيرا ! ".

إبتسمت من سذاجة أسئلتي حتى شعرت بالبرودة تغزو كل أوصالي. حاولت أن تختبر مدى صبري و تحملي فقررت أن تلتزم الصمت لهنيهة، من شدتها حسبتها قرونا من الزمن، إلا أنها سرعان ما رحمت ضعفي و استرسلت قائلة:

" رفيق دربي و مؤنس وحشتي في هذا العالم الذي لا أنتمي إليه، كيف لك أن تدعي جهلك لكل ما يخصني و نحن مرتبطان حتى من قبل أن ينزل سيدنا آدم عليه السلام إلى هذه الأرض؟ أم تراك نسيت أيضا المرة الثانية التي التحمنا فيها سويا و أنت لست سوى مجرد جنين في رحم أمك؟

أيها الجسد الفاني، خلقك أحسن الخالقين من تراب و حكم عليك أن تعود إليه عندما يحين أجلك. و خلقني عالم الغيب و الشهادة من روحه و من أمر ربي، فجعل من قصة وجودي لغزا يستعصي على كل العقول.

أتركك مؤقتا حين تنام فأرجع إليه سبحانه و أنت لا تشعر بشيء، ثم يرسلني إليك الحفيظ إن شاء حين تريد أن تستيقظ، و إن شاء أمسكني فتصبح جثة هامدة...

أم هل أنت لا تتذكر أيضا قول ربك في محكم تنزيله: " و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" "

تلقيت جوابها بمفاجأة و اندهاش كبيرين و كأنها أيقظتني من سبات عميق. إن كل كلمة قالتها لي قد أزاحت الغشاوة عني و نشطت جزءا خاملا من ذاكرتي.

فتذكرت قوله سبحانه و تعالى : " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ  ". فعلمت حينها أننا كنا ملتحمين في هذه الواقعة، علما أنها حدثت و آدم عليه السلام لم يطأ بعد الأرض بقدميه.

كما أنني استحضرت قول الحق حينما قال : "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ "، فأدركت أن الروح التي بين أضلعي هي من عند الله، أصلها منه و إليه تعود ،و ما أنا إلا محتضن لها كالوعاء.

بعد محادثتي الصغيرة مع الروح التي قيدت بي، و أنا الجسد الضعيف الفاني الذي لا غنى له عنها، حق لي أن أسأل و أتساءل بملئ صوتي :

ألم يئن الأوان بعد حتى يهتم الإنسان بروحه كما يهتم بي؟ كيف له أن يأكل و يشرب لكي يقويني، و يتغافل عن إطعام روحه و الاهتمام بها؟ إن هو آمن بمقولة :" العقل السليم في الجسم السليم"، فكان أولى له أن يؤمن بقوله عز و جل : " قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها"

الدكتور الزروالي محمد جمال الدين