كثيرة هي أحاديث العرب وأشعارهم وقصصهم حول الفطنة والدهاء، فأينما وُجِدت الحكمة تحلّقوا حولها، ومن أيهم خرجت لاقى استحساناً وتقديراً، من الأبيات في هذا المحيط أبيات لابن أبي عيينة يقول فيها :

فانظر وفكِّر فيما تمرُّ به 
إنَّ الأريب المفكر الفَطِن

من وسائل استحضار الفطنة واستجلاب نفعها في الحياة حسب أبي عيينة هي التفكير، وليس أي تفكير عابر بل التفكير المتمعن في كل حدث يواجهه الإنسان وفي كل أمر يقابله خلال يومه، فلا يمرّ عليه حدث عبثاً هكذا، بل يعطي كل صغيرة وكبيرة حقها من التحليل والنقد والتشكيك، ربما يبرز قول لأحدهم ناقداً لهذه الفكرة : أليس هذا من التنطع والمبالغة في التفكير، ألن تبني لك هذه العادة شخصية مضطربة وقلقة ؟

أقول لك ليجيبك هذه المرة كاتب روائي ليستريح معشر الشعراء قليلاً .. يقول الكاتب سعود السنعوسي في روايته حمام الدار :

الأشياء ليست كما تبدو دائماً ...

أي إن العين لا ترينا المشهد كاملاً، بل ترينا إياه ناقصاً عدة تفاصيل أخرى، فنحن نرى الأشياء ولا نرى ما خلفها، ونستطيع لمس ظاهرها وتغيب عنا ظلالها، إذن ما نراه هو نصف الحقيقة وليس الحقيقة بأكملها، لذا في هذه الحالة لابد أن يتعاضد البصر والبصيرة، وأن لاتترك للعين وظيفة التفسير فهي ليست أهلها .

جملة أخرى ذات صدى رنان ظلت ترافقني وتتردد علي منذ أول مرة سمعتها فيها، تكون حاضرة معي في مواقف تخاطبني، وفي مواقف أخرى تحضر بشكل مبهم، هي جملة للسنعوسي نفسه يقول فيها :

كل شيء يحدث بسبب.. ولسبب. 

لا أستطيع تفسير مدى وقع هذه الجملة عليّ وتأثيرها على طريقة تفكيري وظهورها من ظلمة القاع في أبسط الأحداث وأثقلها عليّ، كأنها تقول لي أن ما حدث حدث بسبب ولسبب ويقع على عاتقك إيجاد المجهولين في هذه المعادلة !

لعل أرسطو من أبرز المعتنقين لهذا الفكر، فقد عرف بالسببية وبرزت أفكاره في هذا المجال، يقول في كتابه البرهان :

لا نعتقد أنّ لدينا معرفة بشيء ما إلّا حين ندرك سببا له .

وهنا أعود لسؤالي الأول الذي انبثق منه هذا النقاش المتفرع : هل تفكر في ماهية خلفية كل ما تمر به ؟ وهل تعتقد أن فيما ذكرته شيء من المبالغة ؟