يالها من حياة هذه التي نضطر فيها إلى اختبار الغربة بمرّها وتحدياتها، وليس أقسى من صوت بداخلك يظل يذكرك بأنك غريب وستظل كذلك، يخبرك بأن لا شيء حولك يشبهك وأنك لا تنتمي لأي أرض تطؤها قدمك .

متى ينتعش فينا شعور الإنتماء ؟

أجَـارَتَنـا إِنَّ الخُطُـوبَ تَنـوبُ      وإنِـي مُقِيـمٌ مَا أَقَـامَ عَسِيـبُ
أجـارَتَنـا إنّـا غَرِيبَـانِ هَـهُـنَا        وكُلُّ غَرِيـبٍ للغَريـبِ نَسِيـبُ
فـإنْ تَصِلِينَـا، فَالقَـرَابَةُ بَيْنَنـا      وإنْ تَصْرِمِينَـا فالغَريـبُ غريـبُ
أجارَتَنَا مَا فَـاتَ لَيْـسَ يَـؤوبُ      ومَا هُـوَ آتٍ فِي الزَّمـانِ قَرِيـبُ
ولَيْسَ غريبـاً مَن تَنَـاءَتْ دِيَـارُهُ     ولَكنَّ مَنْ وَارَى التُّـرَابُ غَريـبُ

بهذه الأبيات ودّع امرؤ القيس هذه الدنيا وبها نعى نفسه أيضاً، وكانت خاتمة لمسيرة طويلة من الإقتتال في ساحات الوغى والترحال في مشارق الأرض واللهو وكاسات الشراب، والتفوق في ساحات الشعر .

وقصة هذه الأبيات عجيبة، بدأت ببدلة مسمومة أهداها ملك الروم لامرؤ القيس فلما سرى السم في جسده وأحس بقرب منيته مرّ على جبل في الحجاز يسمى عسيب وبجانبه قبر لامرأة تدعى مارية فوضع امرؤ القيس يده على القبر وأنشد قائلاً هذه الأبيات .. هذه الأبيات التي لخص فيها نتاج رحلة طويلة في معمعة هذه الحياة، رحلة أسرف فيها في احتساء الغربة حتى جاء موته غريباً في أرض غريبة .

القارئ في سيرة هذا الشاعر الكبير سيحس بالأبيات على نحو آخر تماماً، سيتذوق عذب كلماتها وثقل معانيها، أما من جرّب الغربة فسيصله لهيب حرارتها، فشاعرنا لم يجرب يوماً القرابة والإنتماء إلا عندما وجد من تشاركه الرفقة في المدفن .. عجيبة هذه الحياة !

حسناً سأقوم بإسقاط بسيط لهذه الأبيات على حياتي الواقعية، فلقائي بشخص ينتمي لبلدي خارج الوطن هو من المواقف التي تحيي فيني الشعور بالإنتماء مجدداً على نفس النحو الذي شعر به امرؤ القيس لما رأى ضريح مارية عند عسيب .. هل مررتم بموقف شبيه من قبل ؟

موقف آخر متسق مع الموقف أعلاه في المشاعر، ألا هو ذلك الشعور بالقرب الذي تشعر به عندما تتعرف على صديق جديد يشاركك الاهتمامات والإيماءات والأفكار، ذلك الصديق الذي يشبهك في سكونك وجنونك، والذي تشكل معه عالماً خاصاً بكما فقط .. لديك صديق كهذا ؟ هنيئاً لك إذا أجبت بنعم !

أخوة حسوب، إن كنتم في الغربة .. أتمنى أن تقرّ عيونكم برؤية أوطانكم قريباً في أحسن حال، وإن كنتم في أوطانكم أتمنى أن لا تضطرواْ يوماً إلى مفارقتها بسبب الظروف .

وسؤالي هنا .. ما الذي يعيد إليكم الشعور بالإنتماء والقرب مجدداً؟