كان صباحٌ مبثوقًا أراقَ به التّعب أنهارهِ عليّ وجعل له في روحي مصبًّا

و مجرى.

أقلّبُ في دفاتر الأمسِ

في عناويني التي لم يعد باستطاعتي العثور عليها مجددًا

رسائلٌ بخطِّ يدي مهترئة,

ملتهبة بالخَطرات والعَبرات

وجهي الذي غطَس في عُمقِ المحيط

و صوتي الذي سَيّجتُ حوله أسوارًا عالية لئلاّ يعلو فوق أنين الرُّوح

ترددتُ في الذهاب إلى الصيدلية في ذلك اليوم

خيَّل لي أن الكون ربما ليس بحاجتي هذا اليوم

–على فرض أنه بحاجتي من الأساس-

وأنني كما سأزيدُ سأنقصُ

وكما سأذهبُ سأعودُ

ثم جرفني صوتٌ غليظٌ يحثُّني على الذهابِ

وبالفعلِ ذهبت.

...

في الصيدلية بدأتُ أتخففُ من حمولةِ مزاجي الكثيف.. ومع حركة الناس في دخولهم وخروجهم ,وابتساماتهم الناعمة في وجهي أزالت جزءًا من ثقلِ اليوم.

حتى دخلتْ "فـــرح" زهرةً في العشرين, وجهها الطفولي كأنها لم تتجاوز الخامسة عشر, كانت عيناها تلمعان بالخوفِ والفضول, وجسدها منتفخًا بقنابل الشَّرى (حساسية حادّة) .

جاءت مع أمها وجدتها، تترقبُ كل كلمة وكل نفس، كما لو كان الكون كلَّه متوقفٌ على سلامتها.

فرح أمٌّ صغيرةٌ. في فترة حملها أصيبت "بتسمم الحمل" ولاقت مضاعفات في شهرها الأخير هي وطفلُها , ضغطها لم يكن مستقرًا و لهذا لم يكن من اختصاصنا التعامل مع حالتها.

وفي سكون ذلك الذعر الذي تمكنتُ من الإصغاء إليهِ مليًّا في عينيهما

رمقتُ بعيون فرح بكاءً لم تدخرهُ لحظةً

لأنه يحتلّ عيونها بالكامل و

يظهرُ ذلك بعيون أمها أيضًا.

ولأول مرةٍ , و كما إنسانةٍ تعرفُ قيمة الضعف وسط الناس

و أن الدموعَ الحبيسةَ تحتاجُ لشخصٍ مؤتمنٍ كي تسقطُ في قبضتهِ, تعرفُ أن الأمومة سرًّا من أسرارِ الكونِ وضعهُ الله في قلوبِ جميع النساء جمعاء

ففهمتُ أن نصف ذلك الخوف لم يكن عليها بل على طفلها

وهناك وقبل أن تهطلَ مآقيها , أمسكتُ بمعصمها وقلت لها بابتسامةٍ خجولة: "شو رح تعيطي؟"

حتى بكت واختلطت دموعها بتفاصيل ما عاشتهُ في حملها من ألمٍ ومعاناة , وجدتُ نفسي متورطة في ذلك المشهد الإنسانيّ , وفجأة… صار حضني وسيلة لتخفيف الألم، ولحظة تواصل صامتة بين إنسان وإنسان آخر، حيث لا يُطلب مني شيء سوى أن أكون هناك.

حضنتها وأنا أتعلم منها دروسًا كانت ستفتني حتمًا لو آثرت البقاء في المنزلِ .. علمتني أن الأمومة خوف يتسلسلُ من جدةٍ لابنةٍ لحفيد..وأننا ولو كنَّا في أقصى مراحل تعبنا قد نستطيع أن نكون مرساةً لغيرنا.

في الأفق الوسيع لا تنظر لأبعد من أنفك بل انظر الى قلبك

فإذا كان لديك قلبًا غريرًا يشعرُ بمصاب الآخرين

فقد أحدثت الفرق العظيم

في المجرة العظيمة.

خرجت "فرح"، وظل اسمها يتردّد في داخلي كأنه يذكرني بقولٍ أحبُّه جدًا للإمام علي بن أبي طالب حينَ قال:

"وتحسبُ أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"

بالفعل, لقد لامسني هذا التماسّ الإنسانيّ , فأنا التي كنتُ منذ ساعات أنظر للحياة من خرمِ إبرةٍ أصبحت أراها الآن من زوايا مختلفة.

كل موقف

وكل تجربة

وكل إنسان تقابله في الحياة

يأتي إليك بدرسٍ وبفكرةٍ , وبوعيٍ جديد

يهدمُ كل أوهام أوثانك .. ليبنيَ بداخلك يقينًا صلبًا تجوبُ به العالم