كان الهواء داخل الدائرة المالية ثقيلاً كالرصاص، مختلطاً برائحة الأوراق القديمة وقلق المراجعين. كنت هناك، واقفاً كشبح بين طوابير لا تنتهي، ومعاملة حياتي معلقة بخيط رفيع على مسمار "الموافقة". الوقت كان وحشاً ينهش أعصابي، والراتب الشهري للموظف الحكومي الجالس خلف الزجاج، كما يُشاع، لا يكاد يسد رمق الحياة، فكيف يطيق صبراً على تعقيداتنا؟ هذه المعادلة المريرة – دخل محدود مقابل حاجة ملحة – هي التربة الخصبة لظاهرة باتت تُرى بعين العرف: "الشطارة".. أو "التسهيلات".. أو ببساطة الرشوة.
تذكرت ذلك اليوم بوضوح مؤلم. كانت معاملتي مستعجلة كنبض قلب مريض، وكل تأخير يعني خسائر لا تُحتمل. نظرت إلى الموظف خلف الزجاج، رأيت التعب مرسوماً في عينيه، والروتين يثقله. همست لي نفسي المُضطرة، المحاصرة بين مطرقة تعطيل مصلحتي وسندان حرمة القانون والشريعة: "وضع بسيط.. مجرد شكر على السرعة.. الجميع يفعلها.. أليس هذا هو العرف السائد؟". وبقلب يرتجف كورقة في عاصفة، وبيد ترتعش كأنها تنتمي لسارق لا لرجل يحتج، انزلقت ورقة نقدية، خلسة، بين ثنايا أوراقي المقدمة إليه. في تلك اللحظة، كان العالم ينكمش إلى صوت ارتجاف يديّ وصوت القانون المدوي في أذني: عقوبة الراشي والمرتشي.. السجن.. العار.
مد يده للأوراق. توقفت أنفاسي، ورأيت سيناريو الكابوس يتجسد: صرخة استنكار، اتصال بالشرطة، فضحية لا تنتهي. لكن.. فقط فتح الأوراق. عيناه التقتا بالمال المختبئ، لم ترفُض، لم تستنكر. حركة سريعة، طبيعية بشكل مُريب، ثم.. صرير خافت لدرج مكتبه يلتهم "الشُكرة". انهمر الهواء إلى صدري فجأة، كأنني غُصْتُ ونجوت. "الصفقة" اكتملت. معاملتي تسارعت كالسحر، ولكن معها تسارع نبض ضميري المُثقل بالذنب والتناقض.
ها هي القضية المُعَضَّلة تُطرح بمرارتها: أنا، وأنت، وكل من وطئت قدماه دهاليز الدوائر الرسمية، نُحاصر بين نارين:
نار الامتناع: فأموري تتجمد في متاهات البيروقراطية، وتعطيل المصالح يصير قدراً، والضرر يلحق بي وبمن يعولوني. "المشهور من المخالفات" – هذا العرف الفاسد الذي يلبس ثوب "الشطارة" – يقول: هذه هي اللغة الوحيدة الفهم هنا!
ونار الإقدام: فأنا أنتهك حرمة الشرع المقدس الذي يقول: "لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" ، وأخالف القانون الواضح الصارم، وأساهم في تغذية وحش الفساد الذي يلتهم نسيج المجتمع. هل أصبحت "شاطراً" أم مجرد حلقة في سلسلة الانحدار؟
السؤال الجوهري الذي يُثقِل الروح
كيف أتصرف؟ أين المخرج من هذا النفق المُظلم؟
التعليقات