كان والدي رحمه الله يرتدي سروالًا بلا حزام، ولحسن الحظ لم أكن أعلم حينها أن الأحزمة تُستخدم أحيانًا كوسيلة للعقاب.

في طفولتي، لم أكن أرى والدي كثيرًا، كانت علاقتي به تتلخص في أمر يُعطى أو نهي يُقال، وأُنفّذه دون نقاش.

الرفض لم يكن خيارًا واردًا، حتى أنني أحيانًا كنت أنسى وجوده، فاي تأخير في القيام به يشعرني بشيء من التقصير .

الغريب أن الخوف الحقيقي لم يكن منه، بل من أمي — حفظها الله — ومع ذلك، أشعر أنني نشأت على تربية حديثة؛ لم يكن هناك "سندل طائر"، ولا عقاب بدني من أي نوع.

في طفولتي، كانت العطل تُقسم بين رعي الغنم( وهو عمل الأنبياء بالمناسة) هوبين مغامرات نعيشها بعيدًا عن أنظار الكبار، نختفي طوال النهار ونعود مع الليل، ونخفي عن أهلنا ما نمرّ به حتى لا يُحرَم منا وقت اللعب.

والخوف الحقيقي كان عندما تقول أمي: "سأُخبر والدك"، لا لأنه يضرب، بل لأن نظراته كانت كافية، تمتلك ما يمكنني تسميته بـ "هاكي التوبيخ".

بعد تقاعده، أُتيحت لي فرصة العيش معه كابن يعيش مع أبيه، لكن طبيعة العلاقة لم تتغير كثيرًا، ما زالت قائمة على الأمر والتنفيذ.

مرت الأيام، والتحقت بالجامعة لخمس سنوات، أعود خلالها في كل عطلة إلى البيت. ولمن يتضايق من أهله، صدّقني: أجمل يوم هو يوم العودة للمنزل.

بعد التخرج، لم أجد عملًا في مجالي مباشرة، فاشتغلت في مهن شاقة، إضافة إلى عملي كمصمم غرافيك. ثم يسّر الله لي وظيفة قريبة من المنزل، لكنها تطلبت تنقلًا يوميًا مرهقًا.

بعد خمسة أشهر، وبسبب بيئة العمل السامة، سعيت لوظيفة أفضل، ووجدتها بحمد الله: راتب أعلى بأكثر من الضعف، ونظام عطل أفضل...

لكن الثمن كان البُعد عن المنزل. رحلة الذهاب والإياب تستغرق يومًا كاملًا، ولا أعود إلا كل خمس أسابيغ. وكأنها لعنة متجددة: البعد عن العائلة.

حتى المكالمات الهاتفية بيني وبين والدي إن كنت أستغرق من خمسة إلى 20 دقيقة مكالمتي مع وادي لا تتجاوز 16 ثانية، وإن طالت (نادرًا ) فاكبر بقليل من30 ثانية فقط. وفي مشهد مضحك إتصل أحد أصدقاىي بوالدي وعند انتهاء المكالمة اخبرني انه لن يتصل به مجددا، والدي عمليا جدا.

علاقتي بوالدي بقيت كما هي، حتى جاء يوم طلب فيه رأيي بخصوص أمر معين. قد يعتبر البعض ذلك لحظة ثقة، مصدر فخر... أما أنا، فكان إحساسي مختلفًا؛ شعرت بالخوف... خفت أن يكون والدي يراني أفضل منه.لا شهادتي، ولا وظيفتي، ولا أي لقب يعطيني هذا الحق. فإن ارادت نفسي علوا فلتتذكر أنها كانت ترعى غنم عمر بن الزايدي

وإن كانت نفسي ترى كذلك، فتبا لها من مكانة...

مرت فترة على هذا الموقف، لكنه بقي حيًّا في داخلي، يخيفني كلما تذكرته.

يتبع...