نحن لا نخاف من الرحيل، بل من أن يمر الوقت بعده وكأنه لم يكن. من أن نستيقظ يومًا ولا نجد أثرًا لمن ظننا أن غيابهم سيكسر الزمن. الحقيقة المؤلمة أننا لا نموت حين نفقد من نحب، بل نموت حين نكتشف أن الحياة لم تتوقف بعدهم، وأننا قادرون – رغم كل شيء – على الاستمرار، حتى ونحن نحمل فراغهم كجرح لا يلتئم.
حين يصبح الغياب مجرد اعتياد مؤلم
أظن أننا لو صدقنا في محبتنا لمن حولنا أو صدق التعلق بهم لما كان الاستغناء عنهم سهل وهين لدرجة أن لا يشكل فارق وتستمر الحياة بعده بصورة طبيعية، هذا ما اعتقده أنا وهذه طبيعتي فأنا حتى اليوم أحمل أثر غيابات مر عليها شهر وأخرى مر عليها أعوام طويلة أشعر وكأن كل فقد يأخذ جزء مني لأكمل الطريق وأنا ناقص منهم
الحقيقة المؤلمة أننا لا نموت حين نفقد من نحب، بل نموت حين نكتشف أن الحياة لم تتوقف بعدهم.
ربما لا يكون الموت في الاستمرار، بل في اللحظة التي ندرك فيها أن ما كان يومًا جزءًا منّا أصبح مجرد ذكرى، وأننا رغم الحزن مضطرون للعيش، حتى لو كان ذلك العيش ناقصًا.
وربما يكون الموت الحقيقي هو أن نستمر، لكن دون أن نشعر أننا ما زلنا أحياء. أن نستيقظ كل يوم ونحن ندرك أن الماضي لن يعود، لكننا نحمله معنا كعبءٍ لا يُرى. ليس الغياب وحده ما يرهقنا، بل فكرة أن الزمن لا ينتظر حدادنا، وأننا مهما تمسكنا بالحزن، سنجد أنفسنا – بمرور الأيام – قادرين على الضحك مجددًا، وكأن الفقد لم يكن يومًا جرحًا مفتوحًا، بل مجرد قصة تُضاف إلى أرشيف الذاكرة.
الوجع ليس في الفقد وحده، بل في لحظة الإدراك: حين نرى الحياة تمضي، ونحن مضطرون للمضي معها، حتى ونحن نحمل في داخلنا شيئًا لم يعد له مكان في العالم الخارجي.
وربما يكون الموت الحقيقي هو أن نستمر، لكن دون أن نشعر أننا ما زلنا أحياء.
لكن هذه ليست حقيقة مطلقة، بل اختيار واعٍ أو غير واعٍ لطريقة التعامل مع الألم. أن نستمر لا يعني بالضرورة أننا لم نعد أحياء، بل قد يكون العكس تمامًا: الاستمرار هو ما يجعلنا نكتشف أشكالًا جديدة للحياة، خارج حدود الحزن، حيث لا يكون الفقد نهاية، بل نقطة تحول.
ليس الغياب وحده ما يرهقنا، بل فكرة أن الزمن لا ينتظر حدادنا.
وهنا يكمن خطأ شائع، فالزمن ليس خصمًا ولا عدوًا، ولا يجبرنا على النسيان كما يُقال، بل هو ببساطة يستمر كما يفعل دائمًا، بينما نحن من نختار كيف نمضي معه. البعض يعلق في لحظة الألم معتقدًا أن التحرك للأمام خيانة، بينما الحقيقة أن تجاوز الحزن لا يعني التخلي عن الذكرى، بل إعادة ترتيبها في الذاكرة بحيث لا تمنعنا من العيش.
وكأن الفقد لم يكن يومًا جرحًا مفتوحًا، بل مجرد قصة تُضاف إلى أرشيف الذاكرة.
لكن لماذا يكون تقليل الألم خيانة للمفقود؟ لماذا لا يكون ذلك دليلًا على أن الحياة بطبيعتها تعيدنا إلى التوازن؟ الفقد سيظل جزءًا منا، لكنه ليس كلّ ما نحن عليه، والحياة ليست مجرد أرشيف للقصص الماضية، بل مساحة مستمرة لصناعة الجديد، حتى لو حملنا بعض الجراح معنا.
حين نرى الحياة تمضي، ونحن مضطرون للمضي معها، حتى ونحن نحمل في داخلنا شيئًا لم يعد له مكان في العالم الخارجي.
لكن من قال إن ما نحمله في الداخل يفقد مكانه؟ ربما لا يعود للوجود كما كان، لكنه يتشكل بطريقة جديدة، يتحول من ألم إلى تجربة، ومن فقد إلى فهم أعمق للحياة. المشكلة ليست في أن الحياة تمضي، بل في أننا نظن أن المضي يعني النسيان، بينما هو في حقيقته عملية تصالح، حيث لا يكون الماضي عبئًا، بل درسًا يمنحنا القدرة على احتضان الحاضر.
يتشكل الألم بطريقة جديدة، لكن ذلك لا يعني أنه يختفي أو يصبح درسًا تلقائيًا، ففي بعض الأحيان يمكن أن يظل الألم عميقًا ومتجذرًا حتى مع مرور الوقت، فالمضي في الحياة لا يعني بالضرورة التصالح أو التحول الإيجابي، بل قد يكون مجرد محاولة للبقاء على قيد الحياة في ظل معاناة مستمرة، وبالتالي لا يجب أن نتوقع أن كل تجربة مؤلمة ستتحول بالضرورة إلى حكمة.
بل نموت حين نكتشف أن الحياة لم تتوقف بعدهم، وأننا قادرون – رغم كل شيء – على الاستمرار، حتى ونحن نحمل فراغهم كجرح لا يلتئم.
شعور الفقد مؤلمًا لا شك في ذلك، ولكن الاستمرار وإيجاد معنى للحياة حتى مع بقاء شعور الفراغ المؤلم، هو دليل على الصلابة النفسية والقدرة على التجاوز، فربما فقدنا أجزاء منا بموتهم، ولكننا لم نفقد أنفسنا في خضم هذا الصراع الداخلي، لذلك لا أرى أننا "نموت" بالاستمرار بعدهم، بل نجد وسيلة للعيش مرة أخرى (ربما اتخذت اشكالًا جديدة تبلورت بالألم).
التعليقات