في زمننا هذا، أصبح الناس أسرع ما يكون إلى الإفصاح عن مشاعرهم ومعتقداتهم، وكأنهم لا يطمئنون إلى ما يعتقدونه إلا إذا أعلنوه للآخرين. ترى أحدهم يُعجب بشخصية دينية أو فكرية أو اجتماعية، فيحول هذا الإعجاب إلى صور يومية ومنشورات متكررة، حتى يغدو حبه استعراضاً لا علاقة له بجوهر الفكرة ولا بصدق المشاعر.
لكن الحقيقة أن الدين والقيم معاً يوجهان الإنسان إلى طريق آخر، طريق الكتمان، وحفظ السر، والتمييز بين ما ينبغي أن يُقال وما ينبغي أن يبقى في القلب. فالمعتقدات العميقة والمشاعر الصادقة لا تزداد قوة بالإعلان، بل بقوة حضورها في الداخل، وبترجمتها في السلوك والعمل.
لقد أوصت القيم الدينية مراراً بالستر والكتمان، فالسر مكانه الصدر، والمشاعر الصادقة لا تحتاج إلى شهود. بل إن إظهارها على الدوام قد يُعرض الإنسان للاستغلال أو النقد أو حتى لتصنيفه في خانة ضيقة، وكأنه لم يعد شيئاً سوى تابع لهذا الاسم أو لتلك الشخصية. وهنا يفقد استقلاله، وربما يفقد قيمة فكرته حين تتحول إلى مادة استهلاك يومي.
الكتمان فضيلة تحمي صاحبها من الانزلاق في دوامة الاستعراض. وهو كذلك يحفظ له توازنه الداخلي، إذ لا يظل مشغولاً بردود أفعال الناس، ولا ينتظر منهم تصفيقاً يثبت له أن مشاعره حقيقية. يكفيه أن يترجم إيمانه بالالتزام، وأن يُظهر حبه عبر سلوكه وأخلاقه، لا عبر منشور عابر أو صورة عاطفية.
لقد قال القدماء: "صدرك أوسع لسرك". وهي حكمة تختصر الكثير. فالأفكار العظيمة حين تبقى في الصدر، تصونها من التشويه، وتحفظها من الجدل، وتبقيها خالصة في معناها. أما حين تُلقى في العلن على نحو متكرر، فإنها تضعف وتفقد بريقها، وتتحول إلى شعار لا حياة فيه.
إن القيم الدينية لا تدعو إلى الانغلاق ولا إلى كبت المشاعر، لكنها تحث الإنسان على الحكمة في التعبير، وعلى أن يزن كلماته قبل أن يُلقي بها إلى الناس. فهي تذكره أن قوة المعتقد لا تُقاس بعدد المرات التي أعلنها، بل بمدى عمقها في القلب، وبما يثمر عنها من أعمال صالحة في الواقع.
الكتمان بهذا المعنى ليس انطواءً ولا خوفاً، بل هو فضيلة دينية وقيمة أخلاقية رفيعة ودليل على النضج. إنه يحرر الإنسان من قيود نظرة الناس، ويجعله أقرب إلى جوهر فكرة الدين الذي يزن الكلمة بميزان الحكمة، فلا يقول إلا ما له ثمرة، ولا يعلن إلا ما ينفع.
يقول تعالى:
> "وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ" (البقرة: 284)
إشارة إلى أن الله مطلع على ما في القلوب، فلا حاجة لإثباته للخلق.
لماذا الأفضل أن نكتم بعض المعتقدات والمشاعر؟
1. الوقاية من الاستغلال: عندما يعلن الفرد ميوله باستمرار، يصبح من السهل على الآخرين استغلال هذه الميول إما للتأثير عليه أو لتوجيهه أو حتى لجره إلى صراعات لا تخصه.
2. الاحتفاظ بعمق الفكرة: الفكرة أو المعتقد الذي يُعلن بشكل متكرر يفقد قيمته تدريجياً، ويصبح مجرد شعار مستهلك. بينما الفكرة المكتمة تبقى أكثر أصالة وصدقاً داخل النفس.
3. التوازن بين الداخل والخارج: المبالغة في إظهار المشاعر تجعل الإنسان أسيراً لنظرة الناس، وكأنه محتاج لتصفيقهم وتأييدهم كي يشعر بصدق مشاعره. بينما النضج الحقيقي هو أن تكون مقتنعاً داخلياً دون انتظار اعتراف الآخرين.
4. تجنب التصنيف الضيق: المجتمع سريع في إطلاق الأحكام: "هذا مع فلان، وهذا ضد فلان". إذا واظبت على إعلان ميولك، ستجد نفسك موضوعاً في خانة ضيقة، بينما الكتمان يمنحك حرية أوسع في التعامل مع الجميع بمرونة.
5. حماية السكينة الداخلية: المعتقدات والمشاعر حين تكون خاصة، تمنح الإنسان حالة من الطمأنينة، لأنها جزء من سره الداخلي. أما إذا أصبحت علنية، فهي تتحول إلى مادة نقاش وجدال وربما هجوم، مما يعكر صفوها.
الفعل أبلغ من القول، الحب الحقيقي أو الإيمان الصادق لا يحتاج إلى صورة أو منشور لإثباته. إنما يظهر من خلال الالتزام العملي بالقيم التي يمثلها الشخص الذي نحبه أو نؤمن به. من يحب شخصية مؤثرة بحق، فليترجم ذلك بالعمل على أخلاقها ومبادئها، لا بتكرار اسمها في العلن.
وهم الاستغناء عن نظرة الناس
يقول بعضهم،"نظرة الناس لا تعنيني، المهم أن أكون صادقاً مع نفسي." وهذه مقولة تحمل قدراً من الصحة في جانبها الأول، لكنها في جوهرها ناقصة ومضللة. لأن نظرة الناس، شئنا أم أبينا، تصنع سمعتنا، وتؤثر في مكانتنا، وتترك أثراً على أسمائنا وأعمالنا.
فالإنسان يعيش في مجتمع لا في فراغ. كلماته وسلوكه وصوره المنشورة يومياً تتحول إلى رصيد يُسجّل له أو عليه، وتُبنى على أساسه الثقة أو تُهدم. قد لا تكون معنياً برأي الناس في لحظة، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل . هذا الرأي سيلاحقك في فرص عملك، في علاقاتك، في احترام الآخرين لك، وحتى في الطريقة التي يروي بها التاريخ اسمك.
إن من يزعم أن نظرة الناس لا تهمه، سرعان ما يكتشف في مواقف واقعية أن صورته في عيون الآخرين إما تُفتح له أبواباً، أو تُغلق في وجهه طرقاً واسعة. ولهذا جاء الدين داعياً إلى حسن السيرة والسمعة الطيبة، لا لمجرد إرضاء الناس، بل لأن صلاح الصورة العامة يعكس صدق الباطن، ويجنب الإنسان أذى الظنون وسوء التأويل.
التعليقات