لم يعد الطعام مجرد حاجة بيولوجية نشبع بها جوعنا، بل صار طقسًا اجتماعيًا يحمل معانيه الخاصة. في السنوات الأخيرة، صارت تطبيقات التوصيل جزءًا من روتيننا اليومي: ضغطة زر واحدة، وإذا بالوجبة تقف عند باب بيتك. رفاهية بلا شك، لكنها في الوقت نفسه تثير سؤالًا صعبًا: هل فقدنا شيئًا من روح الأكل ومعناه حين اختصرناه إلى "وجبة في كيس بلاستيكي"؟

المطعم ليس مجرد مكان يُقدَّم فيه الطعام، بل فضاء صغير للهروب من رتابة الأيام. هو نزهة تمنح العائلة فرصة للتنفس، للترويح عن النفس، ولإظهار الامتنان لمن يتكفل بالطبخ يوميًا. أحيانًا تكون دعوة لتقدير، أو بادرة اعتذار، أو حتى وسيلة لاكتشاف أذواق من نحب: ماذا يفضلون؟ وما الذي لا يحبونه أن يُضاف إلى طبقهم؟ في لحظة انتظار الطعام، يتحول الانتظار ذاته إلى مساحة للحوار والضحك، في جو من الألفة يذكّرنا بأن الأكل ليس مجرد أكل، بل حياة نتشاركها.

أما الوجبات التي تصلنا عبر التوصيل، فغالبًا ما تأتي باردة، مختنقة داخل أكياس بلاستيكية، وكأنها فقدت شيئًا من روحها على الطريق. والأسوأ حين يتحول هذا الخيار إلى عادة في استقبال الضيوف: أن تُقدّم لضيفك طعامًا من مطعم في كيس، بدل أن تبذل جهدًا – ولو بسيطًا – في استقباله كما يليق. هنا لا تبدو الراحة عملية بقدر ما تبدو نوعًا من الجفاء غير المقصود.

التوصيل يوفر وقتًا بلا شك، لكنه قد يسلبنا ما هو أعمق من الوقت: تجربة المشاركة، وبهجة الخروج، والشعور بأننا قدّمنا لمن نحب ما يستحقون.

فهل راحتنا اليوم أهم من الطقوس الاجتماعية التي منحت الطعام معناه منذ القدم؟ أم أن وجبات التوصيل ستصبح مجرد عادة أخرى نتعايش معها حتى تنسى الأجيال القادمة أن الأكل كان يومًا ما رحلة، لا مجرد خدمة؟