منذ أن بدأ الإنسان يفكر، وهو يحاول فهم معنى أن يكون حرًا. كثيرون تحدثوا عن الحرية، بعضهم ربطها بالعقل الذي لا يُقهر، وآخرون شدّوا خيوطها نحو الطبيعة التي لا ترحم. لكن كلما نظرنا إلى الواقع كما هو، لا كما نتخيله، ندرك أن الحرية ليست حالة خالصة ولا مطلقة، بل نتيجة احتكاك دائم بين فكرٍ يطمح وطبيعةٍ لا تتغير. ليست الحرية أن نتجاوز قوانين العالم، بل أن نعرف كيف نتنفس بداخلها.
الخيال واسع، نعم، لكنه لا يصنع بيتزا من هواء. يمكنك أن تحلم بمائدة فاخرة، لكنك ستحتاج إلى الطحين، والنار، ويدك التي تعجن. هذه ليست قيودًا على الفكر، بل هي شروط وجوده. لأن الفكر نفسه لا يوجد في فراغ، بل في جسد، والجسد في عالم، والعالم لا يعمل بما نشتهي، بل بما هو عليه. وهنا تبدأ الحرية الحقيقية: لا في الهروب من هذا كله، بل في فهمه والتعامل معه.
الإنسان ليس عاجزًا حين لا يستطيع تجاوز الطبيعة، بل هو حقيقي. عجزه ليس نهاية الفكر، بل نقطة بدايته. إنه لا يخلق من عدم، بل يعيد تركيب الممكن. قد لا نقدر على خلق عناصر الكون، لكننا نقدر على أن نعيد ترتيبها بطرق لم تخطر من قبل. الحرية لا تعني أن تكسر القيد، بل أن تفهمه، أن تتحرك داخله بحكمة، وأن تبتكر شكلًا للوجود داخل ما هو موجود.
أحيانًا نخطئ حين نعتقد أن الفكر حين يُحاصر يُصبح مقيدًا، بينما هو في الحقيقة يكتشف حدوده، ويبدأ بالعمل عليها. العقل لا يُقهر حين يتجاهل قوانين الطبيعة، بل حين يعرف كيف يتفاعل معها، كيف يعيد توجيهها، كيف يصنع منها أداة بدل أن يراها عدوًا. لأننا لسنا ضيوفًا على هذا الكون، نحن جزء منه، وكل ما نظنه تقييدًا هو في النهاية ما يُعطينا ملامحنا.
الحرية ليست ضوءًا نطارده في السماء، بل نارًا نوقدها من خشب الواقع. نحن لا نحلم لنخرج من هذا العالم، بل لنغير شكل العيش فيه. كل فكرة عظيمة لم تكن ضد الطبيعة، بل كانت تتنفس بداخلها. وكل عقل مبدع لم يكن حرًا لأنه تحرر من كل شيء، بل لأنه عرف كيف يسير بثقة في أرضٍ لا تمنح الطريق لأحد.
التعليقات