الإنسان يولد صفحة بيضاء، لا يحمل خيرًا ولا شرًا. هذه الفكرة تُعبّر عن مفهوم "الصفحة البيضاء" كما وصفها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك. منذ لحظة الولادة، يبدأ الإنسان في تلقي تجاربه واكتساب معايير أخلاقية تساهم في تشكيل شخصيته وسلوكه. يتعلم الإنسان ما هو صواب وما هو خطأ من خلال المحيط الذي ينشأ فيه، سواء عبر التربية أو المجتمع أو الدين
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الإنسان يولد طيبًا أم شريرًا؟ أم أنه مجرد صفحة بيضاء، والمجتمع هو الذي يحدد سلوكه وأخلاقياته؟
الإنسان وحرية اختياراته
إن الإنسان في البداية لا يدرك أخطاءه إلا عندما يُعلمه الآخرون. قد يتعلم هذا عبر النصيحة المباشرة، أو عبر تجارب مع الآخرين، أو من خلال المعيار الأخلاقي الذي يتبعه كل مجتمع. لكن إذا لم يتعلم الفرد كيفية تحديد سلوكه من خلال معيار أخلاقي، فإنه لا يستطيع أن يفرق بين الصواب والخطأ. قد يقوم بفعل يضر نفسه أو غيره دون أن يدرك أبعاده الأخلاقية.
لكن عندما يتعلم الإنسان كيفية تحديد سلوكه من خلال معيار أخلاقي مشترك، يصبح التغيير أمرًا ضروريًا. في هذه الحالة، لا يُلام الإنسان على الفعل الأول، بل على تكراره. لأن التكرار هنا يُظهر اختيارًا واعيًا، رغم أن الفعل قد بدأ بجهل أو غريزة.
حرية الإنسان ومسؤولياته الأخلاقية
الحرية التي يمتلكها الإنسان في اختيار أفعاله ليست مطلقة. إذا كانت أفعاله تستند إلى جهل أو غير مدروسة، فلا يُعتبر فعله حرًا كاملًا. لكن عندما يكون الإنسان على وعي كامل بتبعات أفعاله، تصبح مسؤولياته أكبر. الفكرة هنا ليست أن الإنسان يجب أن يُعفى من أفعاله بسبب جهله أو بيئته، بل أنه يجب أن يُحاسب على أفعاله عندما يكون قد تعلم الحقيقة أو المبادئ الأخلاقية.
نستطيع أن نرى ذلك في الحياة اليومية؛ على سبيل المثال، عندما يخطئ الإنسان مرة واحدة ويُعلّم عن خطأه، فإنه لا يُلام بشدة. ولكن عندما يُصرّ على نفس الخطأ رغم أنه يعرف عواقبه، فإن اللوم يصبح أكثر من مجرد تذكير، ويُعتبر اختيارًا واعيًا للأذى.
الحرية: ليست قدرة مطلقة على الفعل دون قيود
إن الحرية الحقيقية لا تعني القدرة على الفعل بأي طريقة دون قيود، بل تعني القدرة على الاختيار ضمن المعايير الأخلاقية المتفق عليها. فالحرية لا تتناقض مع المعايير الأخلاقية، بل هي جزء من هذه المعايير. الحرية تبدأ من الإدراك، لا من الرغبة. عندما يتعلم الإنسان ما هو صواب وما هو خطأ، يصبح في أيدينا خيارات أكثر وحرية أكبر في اتخاذ القرار.
الإنسان في النهاية لا يملك حرية مطلقة في سلوكه إذا كان هذا السلوك يضر بالآخرين. لأننا عندما نكون في مجتمع، فإن أفعالنا تؤثر في الآخرين. هذه الحرية لا يمكن أن تكون مطلقة لأنها مرتبطة بالمسؤولية.
الإنسان بين المعيار الأخلاقي والاختيار
إن الإنسان لا يختار سلوكه بناءً على مجرد رغبات شخصية، بل بناءً على المعايير الأخلاقية التي يتعلمها ويستوعبها. المجتمع، الدين، والتقاليد تشكل هذه المعايير وتساعد الفرد في تحديد سلوكه. عندما يطبق الفرد هذه المعايير بشكل صحيح، يُعتبر فعله خيارًا حرًا ومدروسًا.
لكن إذا كان المجتمع أو الثقافة التي ينتمي إليها الفرد تفتقر إلى هذه المعايير الواضحة، أو إذا كانت هذه المعايير مشوشة، يصبح الاختيار أكثر صعوبة. في هذه الحالة، قد يواجه الفرد صراعًا داخليًا، ولكنه لا يصبح صراعًا حقيقيًا إذا كان هناك معيار أخلاقي ثابت يمكن اتباعه. الصراع هنا يكون مجرد تشتت بسبب غياب المعيار أو فهمه بشكل خاطئ.
الختام: حرية مرهونة بالوعي
في النهاية، الحرية ليست مجرد القدرة على اختيار الأفعال، بل هي القدرة على اتخاذ قرارات بناءً على معايير أخلاقية واضحة. الإنسان لا يمتلك حرية مطلقة في اختيار أفعاله إذا كان هذا الاختيار يعارض القيم والمبادئ التي يجب أن يسير عليها. وكلما كان الوعي بهذه المعايير أكبر، كانت حرية الإنسان في الاختيار أكثر مسؤولية ونضجًا.
الإنسان لا يولد طيبًا أو شريرًا، بل يولد ليكتسب من خلال تجربته المعرفة والوعي اللذين يشكلان أفعاله. وعلى أساس هذا الوعي تتحدد مسؤولياته، وتصبح أفعاله نتيجة اختيار مدروس، لا مجرد رد فعل فطري أو عشوائي. الحرية، إذاً، هي حرية ضمن إطار أخلاقي يتعلمه الفرد ويمارسه بتأنٍ ومسؤولية.
هل هذه المقالة تناسب فكرك تمامًا؟ وإذا كنت ترغب في تعديل أي جزء أو إضافة، أنا هنا!
التعليقات