أكتب والساعة الآن تشير إلى الثانية عشرة منتصف الليل. لا أدري بحق لماذا أكتب في هذا الوقت المتأخر، رغم أن لدي دوامًا في السابعة صباحًا غدًا.

لست هنا لأكتب عن مشاعر أو ذكريات. إن السبب الذي أظنه يدفعني للكتابة في هذا الوقت هو رؤيتي لمجموعة من الببغاوات على مواقع التواصل الاجتماعي تكرر كلامًا سمعته وتردده للآخرين بدون أي تفكير أو فهم معمق.

أنا أتحدث عن المثقفين أو القراء في زمننا الحالي. أشعر حقًا بالأسى؛ لأنه لم يعد بإمكان العقل العربي، وخاصة في هذا الجيل، أن ينتج فكرة. كل الأفكار التي يعبر عنها هي أفكار غيره. فأحيانًا تسمع أحدهم يقول: (قال ماركوس أوريليوس كذا وكذا... قال نيتشه كذا وكذا... قال فلان...) رغم أن ذلك قد يعارض معتقداته ومبادئه التي يدّعي أنها ملكه وقد يدافع عنها لو كلفه ذلك حياته.

كما قلت سابقًا، إن الجيل الذي أعيش فيه غير قادر تمامًا على إنتاج فكرة واحدة (وأنا لا أعمم ولا أجزم جزما تامًا)، لأن هناك سببين رئيسيين: الأول هو غياب الرغبة في التجربة، والثاني هو مشكلة نقص الإبداع. لم يعد الإبداع مجرد مهارة مفقودة، بل أصبح أزمة فكرية تُظهر تراجع الرغبة في التجديد والابتكار.

في نظري، القراءة ليست الوعي بحد ذاته كما يعتقد أغلب الناس. إنما، في رأيي، القراءة ليست سوى مفاتيح تفتح أبوابًا في عوالم الوعي..

ولكي أعبر أكثر، إليكم هذا المثال: عندما كنت في الثامنة من عمري، كنت أشاهد أحد البرامج الترفيهية الذي لطالما أثار اهتمامي ويدعى "ابحث عن الجمل في الخريطة". تأتي قبل مرحلة البحث مرحلة تسمى "حل اللغز". فعندما تحل اللغز، تنتقل إلى مرحلة البحث التي تكون صعبة. على المشاهد أن يجد الجمل في الخريطة، وهي عبارة عن غابة مليئة بالحيوانات الأخرى، وعلى المشاهد أن ينسى أمرها ويركز فقط على الجمل.

وعندما يعثر على الجمل، يتغير التحدي في النهاية ليصبح بدل البحث عن الجمل، البحث عن الحيوانات التي يستطيع المشاهد رؤيتها في الخريطة. وكل حيوان تعثر عليه يزداد رصيد نقاطك.

بناءً على هذا المثال، في رأيي، القراءة أشبه بمفاتيح تفتح أبوابًا في عوالم الوعي. كل كتاب تقرؤه يمنحك مفتاحًا لفتح باب جديد. لكن، بعد فتح الباب، عليك أن تستكشف ما وراءه، وألا تكتفي فقط بالنظر عبر الفتحة.

فدور القراءة الأساسي في نظري هو فتح أبوابا الوعي. كل كتاب تقرؤه تفتح به باب ما، ولكن لا يعني ذلك أن الأمر انتهى هنا، أو أنك حصلت على ما كنت تبحث عنه. كلا! عليك أن تبحث عما تحتاجه أو عما تود معرفته، ثم تنتقل للبحث عن الأشياء التي بمعرفتها تكون قد تقدمت خطوة.

فالذي لم يبحث عن شيء بعد أن فتح الباب أعتبره لا يزال في نقطة البداية. والذي فتح الباب وبحث فقط عن ما يريد معرفته أعتبره إنسانًا محدودًا. أما من بحث عن ما لا يحتاجه، أعتبره ببغاءً فقط؛ لأنه كرر كلام من سبقه لا أكثر ولا أقل.

أما القارئ الحقيقي، فهو من بحث عما يحتاجه (وأقصد بـ"ما يحتاجه" أي ما ينفعه وما ينفع محيطه) أولًا، ثم بحث عما قد ينفعه في المستقبل. ذلك هو القارئ الحقيقي في نظري.

عودة إلى موضوع إنتاج الأفكار: إنتاج الأفكار في نظري يأتي على ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: التأثر بالمحيط، أو بما يُطلق عليه (الإنسان ابن بيئته وابن تعبئته).
  • المرحلة الثانية: خوض تجارب في الحياة.
  • المرحلة الثالثة: القدرة على جمع المادتين وإنتاج فكرة.

من خلال هذه المراحل، يأتي شيء يسمى المفكر، وتأتي بعدها الفكرة. وغالبًا ما يكون المفكر وأفكاره عظيمة.

في حالة خطر في بالك، عزيزي القارئ، أني أربط الشخص بالآخر، فهذا صحيح. فأنا أرى أن الآخر قطعة لا تتجزأ من وعي الشخص. من خلال الآخر نرى اختلافنا وجمالنا وعيوبنا ومدى إنسانيتنا. الآخر هو الأنا ولكن بشكل مختلف، رغم محاولة النفس أن تقنعنا بأنه ليس منا فقط لأنه يمتلك عالمًا خاصًا. في نظري، ذلك العالم الخاص ما كان ليوجد لو لم يكن الآخر.

في النهاية، أرى أن القراء يعيشون أزمة حقيقية وعليهم أن يعالجوها، وإلا ستسوء الأمور أكثر فأكثر. ففي واقع الأمر، لقد ساءت حقًا. لقد صرنا نرى التبعية والعبودية لبعض المفكرين بطريقة مثيرة للشفقة.