ابْتَدَأَ غروب الشمس على المدينةِ في هذا اليوم البَهِيج؛ لتُعلن عن مساءٍ طال انتظار شعورهِ، بعد أن غاب عليّ بُرْهةً من الدَّهْر، وفي هذه الليلة التي بدأ سواد ظلامها وأصوات الشوارع تضجُّ بضجيج السيارات والمارة وزحمةِ ساكنيها، اتصل عليّ أحد الأصدقاء عند الساعة الخامسة عصرًا؛ من أجل أن أشاركه الأكل في وليمةِ عشاء.

لم يكن باستطاعتي أن أرفض له هذا الطلب، لقدر مكانته في قلبي، أَقْبَلَ إلي بعد مدَّة قصيرة، تبادلنا السلام والأحضان التي تَنم على صَدَاقَةٍ تَحْكُمُهَا الْمَوَدَّةُ العَمِيقَةُ الْمُتَبادَلَة.

ركبنا السيارة من أجل الذهاب إلى مائدة العشاء معًا وأخذ كُلٌّ منا يتحدثُ عن حاله وعن ما دارت به الحياة في الأيام الماضية،

تبادلنا الكثير من أطراف الأحاديث في تلك الفترة الزمنية التي استُغرقت إلى أنْ أصبحنا في منتصف المدينة،

نزل كِلانا من السيارة بعد أن فُتحت لنا الأبواب أمام أحد أبراج المدينة،

أخذ التفكير يأخذني تارة وأخرى من هذه اللحظة التي فُتح لي باب السيارة من أحد موظفيه.

تَصَاعَدَ بناء المصعد إلى أن وصلنا إلى آخر طابق فيه، رُحَّب بنا تراحيب جميلة تنم على رقي المطعم ومكانته في وسط هذه المدينة

اتجهتُ إلى تلك الطاولة التي تم حجزها لنا حتى نأتي، أخذت أتجول وأمامي مناظرُ رائعة ثم جلسنا نتبادل أطراف الحديث الذي لم يَكتمِل، حتى

أَتَى إلينا نُدُل هذه المرة لم يكن نادلًا وأحدًا كما اعتدت عليه،

قدموا إلينا من جميع الأصناف الموجودة لديهم، اللحوم والسلطات والبطاطس المقلية وبعضًا من المشروبات الغازية؛ التي في الحقيقة لا أعرفها ولا أستطيع معرفتها أو حفظ أسمائها،

تناولت وجبة العشاء بحب مع صديقي، لم نتناول أي شيء مع بعضنا منذ زمن طويل، وعندما أكملنا جاء أحد ممثلي المطعم وأعطانا فاتورة الطعام...

نظرت إلى الفاتورة تفاجأت من السعر المرصوص عليها للحظة تخيّلتُ بأنني أتوهم، 1700 ر.س مقارنةً بالأكل الذي لم يسد جوعي الذي كنتُ أشعر به، لا أعلم ما المميز في تلك الوجبة التي تُقدر ثمنها بهذا القدر عن غيرها؛

أمتاكد من هذا السعر.. قُلتها بدافع الفضول من أجل المعرفة!

رد علي صديقي دعك من هذا يا صديقي أعطيني الجهاز الآلي للدفع.

بعد أن دفع الحساب خرجنا من ذلك المطعم مُتجهين إلى السيارة لنذهب إلى أحد المقاهي لإحتساء كوب من القهوة وإكمال ما تبقى من الأحاديث حول مواضيع في غاية الأهمية هذه المرة،

كُنت في شرود طيلة الطريق، لِماذا كُلّ هذا البذخ والتبذير، أو لماذا بيعت لنا تلك القطع من اللحم بهذا السعر الباهظ؟!

لماذا كُلّ هذه المال دُفع من أجل طعام لا يختلف عن غيره من المطاعم الأخرى؟!

: قاطعني حديث صديقي: نحن بالقرب من المقهى، مالذي يشغل تفكيرك يا رجل؟

: أجبت عليه: لا أعلم ثمة أشياء لست مرتاحًا لها، قف جانبًا قبل الوصول إلى المقهى أريد شراء ماءٍ، أشعر بالعطش.

_ تبقى القليل ونصل وسآخذ لك من المقهى ماء ليس بالضرورة أن أقف من أجل شراء الماء، ونحن ذاهبين إلى المقهى يوجد هنالك.

:طأطأت رأسي كـ دليل على موافقة ما تفوّة به، وأصواتٌ بداخلي تُحدثني دعك من كل هذه الأمور وعش الحياة بطبيعتها، وأمثال في عقلي الباطن تـخاطب بأن « لضيف في حكم المضيف »،

ما إن هدأت تلك الأصوات في داخلي حتى وصلنا إلى باب ذلك المقهى...

يبدو المقهى جميلًا من الداخل، تفاصيله تنم عن الرُقي والجمال؛ كأنهُ منسوبٌ لأهل الثراء والجاه.

جلسنا على الطاولة المكونة من كرسيين واحدٌ لي والآخر لصديقي.

رُحَّب بنا أحد نُدُل المقهى مُتحدثًا، كيف يمكنني خدمتكم؟

رد عليه صديقي، وطلب كوبان من القهوة الباردة وقنينة ماء.

أخذ الحديث يساورنا ماحللّنا، تحدثنا عن مانهواه في الكتابة وأهمية القراءة ومدى تأثيرها علينا وعن خُططنا الدراسية التي نمشي على خطاها، حتى بدت مواضيع الفلسفة تأخذنا شيئًا فشيئًا؛ لتطورها الفكري الذي نسعى لأن نصل إليه، لم تخُنَّا الذاكرة في الحديث عن مشاريعنا الهامة التي لطالما حلمنا بها.

ارتشفنا القليل من القهوة ثم عُدنا نتحدث عن الآراء حولها وتبادلنا الأفكار؛ لاتخاذ القرار النهائي فيها، حتى أكملنا.

استعدنا للخروج من المقهى، نادى صديقي أحد نُدُل المقهى من أجل دفع المبلغ، تفاجأتُ مُجددًا من المبلغ كان عكس ما ظننت وما فكرت فيه.

فكرتُ لبرهةٍ من الزمن، ماهو الشي الذي يميز ماء المقهى عن ماء البقالة، ولِمَ أسعاره تفوق سعر ماء البقالة.

أبيت أن لا أسكت هذه المرة وسألت صديقي، لماذا سعر الماء هنا أغلى من سعرها في أماكن وبقالات أخرى؟!

أجابني، أن المقهى هذه هي أسعارهم المناسبة؛ لأنهم يأتون إليه كبار الشخصيات والمشاهير، ولهُ سمعته في الرُقي والجمال.

التزمتُ الصمت خشيةَ أن يأخُذ صديقي موقفًا مني وأن يحدث بيني وبينهُ شيءٌ قد فات أوانه وذهب خلاصه، ولكن عليّ أن آخذهُ درسًا يُنبهني للأيام القادمة.

رجعت إلى البيت وثمّة شعور بالأسى في داخلي، لِمَ كُلّ هذا البذخ والتفاخرِ في تناول الأكل والمشروبات في حين أنني أستطيع أن أتناول طعامًا أفضل وأجمل بسعرٍ لا يترواح 1‎%‎ من قيمة المبلغ المُهدر في أماكن أرقى وأسمى مثلما يعتقد البعض.

أود أن أعرف من زرع في عقول هؤلاء الأشخاص أنه يجب أن يتناول الأكل في أرقى المطاعم والمقاهي ليسُد ثغرات الجوع في بطنه، بينما غيرهُ يتضورُ جوعًا حتى الموت!.

فكري محمد الخالد