الإنسان كتلة من الخلايا الحية، المتخصصة جدا، وإن كانت كلها إلى حد ما لها نفس الطابع التركيبي، ومن هذه الخلايا، هناك الخلايا العصبية التي يتراكم جزء كبير منها في كيلو جرام ونصف الكيلو محمية تحت عظام الجمجمة، تعتليها فروة الرأس، وهي الدماغ، الذي يعد الاسقاط المادي لعقلنا، وهذا الآخير ينقسم بدوره لجزء باطن(لا واع) وجزء واع ، فصار لدينا الدماغ، والعقل الواعي، والعقل الباطن، في هذه الأماكن، مراكز التحكم العصبية، نحب بها ونتحرك بها، ونفكر بها، ونحكم على كل شيء تبعا لها، أو لما تمليه علينا تبعا لخبرتنا، وحين نحب شخصا لا نعرفه للوهلة الأولى، فإن سيد الموقف هو عقلنا الباطن، الذي يعبر عن رغباتنا المكنونة، التي لا ندركها، ولا نفهمها، ولكنه يفهمها.

يفهمها تبعا لما حصل عليه من معلومات، اكتسبت عبر تاريخ تجربته الطويلة، فصارت محل حكمه الأولي، مثل الشعور بعدم الراحة لوجود إنسان لم نلقه مسبقا، مع أنه ربما يكون في حقيقته شخصا أفضل مما ظننا؟ ألا نقول هذه الكلمة أحيانا؟ أو يقولها لنا أحدهم؟

وهذا ينطبق على كل ما نعيشه، البيئة التي حولنا وأحكامها المطلقة، التي إن لم يحللها عقلنا الواعي، ستدخل دوما لتترتب وتقفز لتكون مرجعيتنا في الحكم على الأمور.

هذا يعني، أن المدخلات التي تشكل مصدر المعارف لنا، هي التي تحكم تقييمنا للسلوك، أو حتى تعطينا ردود الفعل، لهذا نجد أن القراءة في كثير من الأحيان، تعزز من قدرتنا على اتخاذ قرار أفضل، لأنها تزيد من المدخلات لأدمغتنا، ويبدو في كثير من المجتمعات المتعصبة، سواء كانت متطورة تكنولوجيا أو لا، أن القارئ غالبا أكثر انفرادا بقرارته وسلوكه، وأكثر نوعية، وهذا لأنه يتصرف بناء على مصادر أوسع، وذات خبرة أعمق، بعيدا عن انقياد كامل لقرارات الجماعة، التي يستقي أفرادها جميعا، نفس المعارف، يخافون في صغرهم من نفس الوحش في القصة المروية، يشهدون جميعا العقاب الذي كان جزاء سلوك ما، ويشعرون بكم الفرحة للمكافئة التي حصل عليها أحد الأفراد جراء سلوك ما، فتكون عقولهم الباطنة متقبلة لسلوك ما دون وعي منهم لما اعتادوا عليه، بل حتى أنهم يرفضون نفس الرفض ، ولو سألت أحدهم لما استطاع التأصيل لرد فعله، وهذا ينطبق على تسلسل هذا المجتمع، الذي يورث المخاوف، والمفاخر، ويعطي قيمة السلوكيات، والتي إن أخذت قيمتها الحقيقية يوما لحاجة مبررة، تصبح بعد توارث أعمى بديهية وقد تتحور تدريجيا لتصبح في غير مكانها.

ولا أعلم كيف يمكن أن يصل البشر لآلية يمكنهم من خلالها أن يدركوا جميعا أنه في كثير من الأحيان تكون سلوكياتهم وردود أفعالهم السريعة نتيجة لتوارث سلوكي تربوي، لا لتفكير واع ؟