في هذا المنشور سأقصّ عليكم قصتين، قصّة أستاذ جامعي، وقصّة زوج تعرّض للخيانة، ولنا في ذلك دروس مفيدة في طريقة صياغة الأعذار، والأهم من ذلك، منهجية لقبول العذر الجيد أو رفضه.

الاستاذ والطلاب

تخيّل أن تكون أستاذًا جامعيًا، وفصلك الدراسي ينتهي بتقديم الطلبة تقريرًا كاملًا عن المادة، الفصل الدراسي ينتهي بعد عيد الفطر، لكنّك لا تُريد أن تصحّح الأوراق في خواتيم رمضان وبداية العيد، فتضع آخر موعد لتسليم التقارير عند العشرين من رمضان.

يأتي الطالب الأوّل في الـ 25 من رمضان، ويطلب منك مسامحته على التأخّر في تسليم التقرير، فتسأله عن السبب، يُجيبك بأنّ والدته توفّت قبل أسبوع وكان في واجب دفنها والعزاء. تقول له أنّك تأخّرت ولو قبلتُ الأعذار لتشجّع غيرك.

يجيبك المثكول بأنّ والدته توفّت، ولو قبلتَ عُذره، لن يتشجّع بقية الطلّاب على التسليم بموعد متأخّر، لأنّهم يعرفون أنّ سبب التأخير هو موت الأم، وهم ليسوا أشرارًا إلى هذا ليقتلوا أمهاتهم، ولن يزيد هذا من تسليم التقارير لك في موعدها لمن هم في عُذري، فأيّ طالب بسبب مماثل سيفضّل أن يحضر جنازة والدته على تسليم التقرير!

يُعجبك هذا الاقناع، تقبل عذره وتأخذ التقرير منه.

يأتي طالب آخر، وهو من غير عذر سوى كسله، يقول لك أنّه تأخّر ويتوقّع أن تقبلَ عُذره، تسأله عن هذه الثقة؟ فيقول أنّك ما أخّرت تسليم المواعيد إلّا لأنّك لا تريد أن تخسر ساعات من وقتك في العيد مصححًا لأوراق الامتحانات، وأنّك ستصحح ورقته لأنّك أستاذ نبيل، وستقبل تضييع ساعة من وقتك، على أن تجعل هذا الطالب يضيّع مئة ساعة بعد أن يرسب ويعيد الفصل من جديد، وينهي حديثه بأنّه لن يُخبر أحدًا عن ذلك، فما الضرر؟

تُجيبه بأنّ حجته جيدة، لكنّ الذي دعاه لايجاد هذه الحجّة الجيدة، هو أن يظنّك أستاذًا نبيلًا تقدّر مثل هذه الحجج، والجميع سيتشجّع على توفير مثل هذه الحجج في المستقبل، فترفض طلبه وتقرر اعتباره غير مستوفيًا لمتطلبات المادة.

يأتي طالب أخير، يقول لك: "أعتذر، لم أسلّم التقرير يوم أمس، رافائيل نادال كان يلعب نهائي أستراليا يوم أمس، وأنت صديقي على الفيسبوك يا أستاذ، وتعرف أنِّي مشجع وفي للماتدور"

ويُضيف بخُبث: "لا أظنّ أن الكثير يحبّون نادال لدرجة الجنون مثلي، لن تجد من يحبّ التنس في هذا الفصل، لن ترى طالبًا بنفس العذر مجددًا" ثمّ يختم "ولا أظنّ أن وضعي يختلف كثيرًا عن صديقي الذي ماتت أمّه، فقد خسر نادال النهائي وفُجعَ قلبي."

تتنحنح لتٌضفي على صوتك نبرة وقورة ثمّ تقول له: "صحيح، ربما لن نجد كثيرًا من الطلبة يحبّون نادال ويصادف أن يلعب صاحبهم نهائي البطولة قبل تسليم التقرير بيوم، لكن إذا قبلتُ عذرك، فإنِّي أفرض على نفسي أن أقبل أعذارًا مماثلة في المستقبل، ليس ضرورة نادال، ربما أحدهم يحبّ مسلسلًا على نتفليكس، ويصادف أن تظهر الحلقة الأخيرة قبل تسليم الموعد، ربما يحبّ أحدهم مطربًا ويصادف أن يكون حفله المباشر في المدينة قبل التسليم، ربما يأتي ضيف لأحد الطلّاب فيتّخذه عذرًا لعدم التسليم"

تُنهي الحديث بصرامة: "ببساطة أيّ طالب سيأتي بعذر مشابه لهذا في درجة الاقناع، إذا قبلتُ تسليمك المتأخّر، سأقبل من الجميع"

ثم تُرقّق لهجة صوتك وتقول: "أمّا بخصوص الطالب المسكين الذي كان قبلك، فنحن كمجتمع نملك سلسلة من الأولويات، والعائلة والوقوف بجانبها في وقت الشِدّات أولوية، وعندما قبلتُ عذره، كنتُ أؤسّس لقبول أعذار مماثلة، ربما يتمرّض أحدهم، يتطلّق أبواه، تموتُ جدّته، لكن لن يأتي الكثير بمثل هذه الأعذار الجيّدة، على عكس لو قبلتُ منك عذر مباراة نادال، سيأتي غيرك بأعذار مماثلة بسهولة!"

الزوج القاتل

لن استخدم لغة الضمير المباشر في هذا المثال توقيرًا لك قارئي العزيز، لكنّ تخيّل أن هناك جلسة محاكمة لزوجين قتلا زوجاتهما، الأوّل غضبان والثاني مكران.

يقوم غضبان مدافعًا عن نفسه أمام القاضي ويقول "سيّدي القاضي، لقد عدت في قيظ يوم حار إلى منزلي، سمعتُ صوتًا غريبًا في غرفتي، دخلتُ ووجدتُ أنّ زوجتي تخونني مع عشيق لها، لم أصدّق ما رأيت، أمسكتُ بالمزهرية التي على الطاولة، وضربتُ عشيقها ضربات متتالية، إلى أن خرّ قتيلًا بدماءه"

ثم يضيف غضبان : "سيّدي القاضي، أنا أطالب باطلاق سراحي، فأنا لست قاتلًا، ولا أشكّل خطرًا على المجتمع، فأنا قتلت بظروف خيانة، وزوجتي سأطلّقها بعد المحاكمة، وسأبقى من دون زوجة، فلن أشكّل تهديدًا على المجتمع"

"سيدي القاضي، أنت رجل حكيم، وتعرف أن لا خطر لي سوى على الذين يخونون زوجتي، فلو لم يكن الشخص مرتكبًا لهذه المعصية، لما قتلته"

يجيبه القاضي: "صحيح يا غضبان، لا أظنّ أنك ستشكل خطرًا على المجتمع بعد هذه الحادثة، لكنِّي لو قبلتُ عذرك، سيقدم كثير من الناس ممن يحصل لهم نفس الموقف على قتل الخائنين، وقتل زوجاتهم ربما، ولن يكون هناك قانون يحكمهم، ستشيع الفوضى"

ثم يصدر القاضي حكمه: "نظرًا لأنّ المدّعى عليه كان في حالة صدمة للخيانة التي لحقت به عندما قام بالقتل العمد، سنقوم بتخفيف الحكم عليه"

يأتي الدور إلى المتّهم الثاني مكران، فيقوم من كرسّيه بتثاقل مغرور :"سيدي القاضي، قصّتي مثل قصّة غضبان، هؤلاء النساء الخائنات، لقد لقينا منهنّ شرًا! عندما دخلتُ عليهما وهما يخوناني، تركت الغرفة والبيت، ثمّ زرت الخائن عصرًا في بيته، وقمتُ بقتله جراء خيانته الغادرة وفعلته الشنيعة بزوجتي"

"سيدي القاضي، لن أشكّل خطرًا على المجتمع بعد هذه الحادثة مثل غضبان، فأرجو تخفيف الحكم مثله"

يجيب القاضي: "هوينك يا مكران، حالتك تختلف عن غضبان، ولقد خفّفنا الحكم على غضبان لأنّه كان مصدومًا، وتصرّف بتصرّف مباشر بعدما رأى خيانة تسوؤه، لكنّك يا مكران لم تفعل هذا، وخرجت من البيت وأخّرت الجريمة، وخطّطت لقتل الخائن في بيته لتبعد عن نفسك الشبهات، وفي هذا مكر لا يخفى"

"لو خففت الحكم عليك، لتفنّن الناس مستقبلًا في طرق القتل لأنّهم قد امنوا أنّ العقوبة مخفّفة، فقد يظنّون أنّ القتل بالمزهرية في وقت الحدث غير كافي، فقد يعذّبون الخائن، أو يشهّرون بقتله بين الناس، وهذه فوضى لا تصحّ في دولة سوية"

ثم يصدر القاضي حكمه على مكران بالعقوبة الأصلية لجريمة القتل المتعمّد.

الخلاصة

في هذه القصص، تجد أن الطرف الحاكم "القاضي والأستاذ" كان قبول الأعذار عنده لا ينحصر في "مصداقية" العذر، وإنما يُضاف إلى ذلك تفكيرًا بتأثير قبولهم للعذر على المدى البعيد.

الفكرة أنّك عندما تقبلُ عُذرًا، فإنّك تُحتّم على نفسك أن تقبل الأعذار المشابهة في المستقبل، ربما يكون لهذا استثناءات، كأن يكون العذر في السرّ ولا يعرف بأمره أحد، أو أن تشترط أنّك لن تقبل عذرًا مماثلًا من البداية، لكنّ الأمر غير مضمون، وقد يتوقّعه أي أحد، فالأسلم أن تتبع الخيار الآمن، وهو أن لا تقبل إلّا الأعذار الجيّدة، مع نظرة لمآلات هذا القبول على المدى البعيد.

للأمانة العلمية، فكثير من الأفكار في هذا المقال قد نُقلت من هذا المنشور، مع تصرِّف مرن في النقل.