لطالما شعرتُ أن الحب ليس موجودا لإعطائه تعريفا محدودا ببضع كلمات، ولطالما شعرت أن هذا المفهوم غير قادر على الحصول على كل ما يستحقه من تحديد دقيق لمعناه طالما يقوم الناس بتعريفه.

حب بين شخصين، حب الوالدين، حب الإخوة، حب الأصدقاء، حب المحيط، حب الناس الغرباء.

ينتاب الناس دفئ ليس بعده دفئ حينما يشعرون بالحب، يقف الزغب خلف الرقبة وتسري برودة في العمود الفقري، ينبض القلب ويحمر الوجه، وآخرون يبتسمون بدفئ وينشرون السعادة بين الناس الذين يحبونهم.

أحيانا، أضيع بين هذه التجليات اللطيفة للحب، كلما أمر بجانب فقير للحب ينظر بفراغ إلى الفراغ. وعندما مررتُ ذلك اليوم بقرب رجل متسوّل يدفّئ نفسه بأشعة الشمس بعد أن تبلل بالمطر قرب البحر أمام واجهة مهيبة من الأبنية الأوروبيّة الشامخة التي تعود إلى زمان مضى، نظرتُ إلى تلك الأبنية الباهية ثم إلى الرجل الذي كان يفوح برائحة البول النفّاذة، شعرت بشيء في رأسي يدفع بكل تلك المكتسبات القبلية في الحياة إلى الوراء، يفسح مساحة لتخيّل ذلك الرجل وهو خديج، ثم طفل رضيع يحوم الناس من حوله يقّبلونه بقوّة ويعبرون عن مدى جماله، والداه سعيدان وهو يبكي بسبب الهواء في رئتيه.

أحسست بحمّة داخلي، شيء يريد السؤال، أين ذلك الحب الذي كان من حوله يوما يا ترى ؟. لقد كبر وحفر الزمن نفسه في وجهه خطوطا، ثم أصبح عارٍ من الحب وكأنه لم يسعى هذا الأخير في حياته يوما.

عندما تمرّ على المرء أوقات يشعر فيها بالعري من الحب، يصبح في مهبّ الريح، ريح كل شيء من كل مكان، من الماضي والحاضر والمستقبل، أين تحمل تلك الريح ذكريات عند حب قديم، عن صديق يشارك اللعب، عن والدين محبين، عن أقارب مهتمين، عن حبيبة أو حبيب يعشق، ثم تنجلي تلك الريح ويصفّر السؤال في كل مكان، أين هذا الحب الآن ؟. عندما ينظر إلى ماضيه، تكون ريحها كالسموم، وعندما يلتفت إلى حاضره، يصبح لا يشعر بشيء البتة، لقد خدّر والآخرون من حوله يبدون سعداء فيسأل، ألم أكن سعيدا أنا أيضا ذات يوم؟ ينظر إلى الحبيبين المتشابكين الأذرع فيحنّ إلى حب كان أو لم يكن، أو كان وقد قبر في القلب، ينظر إلى العائلة المنشرحة فيتذكر عائلته، تلك التي تختلف من واحد إلى آخر، ينظر إلى العابد فيتذكر ربه، ذلك الذي تركه عاريا من الحب، ينظر إلى ابتسامة الطفل فيبكي، ذلك الذي فقد الحب ولم يعد يعرف معنا له.

حدث ذات مرّة أن فقدتُ الإدراك التام بمعنى بعض الكلمات بعد صدمة وقعت لي، كنتُ لم أقدر على استيعاب معنى كلمة غدا، أو بعد سنة، و كلمة فرح، وجلسة ذلك الرجل كانت تقول بأنه فقد الإدراك بمعنى كل الكلمات.

عندما تتشمخّ مآقي المخلوقات الحيّة، يكون القلب قد فطر مسبقا، فُطر من الألم وفَطر عليه أيضا، وعندما تكون تحمل فائضا من هذا الحب الذي تعطيه لاناس محددين في حياتك، لماذا لا تمرّ فكرة توزيعه على الجميع ؟. جلستُ أنظر إلى الناس يذهبون ويجيئون، أضع نفسي في مكانه، ذلك الرجل ذو الأسمال البالية، الظلام من حولك وكأنك في الليل، الصمت رغم الضجيج، القبح رغم الجمال، اللاشيء رغم كل شيء. أعود إلى الواقع على صورة انسان يغازلني، فيضربني سؤال آخر في رأسي، هل هو عارٍ من الحب لأنه ذو هيئة رثّة ؟. فأرى الجمال من حولي وهو فقير من الحب، أعود أقول، هل هو عارٍ من الحب لأنه لم يكن يريده ؟. ومن لا يريد الحب ؟. أين أبوه ؟أين أمه؟ أين من أحبه يوما لأجله هو لا لشيء آخر؟.

انطلقت من سماعة الأذن أغنية "jenny of oldstones " كانت جيني ترقص مع أشباح الملوك الغائبين، تجتر الحب القديم، حب أشخاص لم تعد حتى تتذكر أسمائهم. تضيع ذكراهم في طيات السنين ولا يعود لهم وجود، وتبقى جيني وحدها ترقص في البهو الواسع لا تريد أن تغادره، لأنها تعلم بأن لا حب في مكان آخر غير ذلك المكان.

أراه من جديد، ذلك الرجل، أشعر بالعجز لأنني لا أقدر على مساعدته، أنظر إلى السماء، إلى حيث ينظر العباد، لا أرى سوى قطع الغمام وبعض الشمس، أنزل نظري وأرى يدي فارغتين، أين الحب الذي يمكنك أن تهديه له؟ أأنت حي أصلا ؟ أيمكن أن يحيه الحب ؟. لماذا موضوعه معقّد إلى تلك الدرجة؟، لماذا الناس فقراء حب إلى هذه الدرجة ؟ غني كان أم فقير مال، طويل كان أم قصير، وسيم كان أو أقل وسامة، كلّهم فقراء حب. لماذا كل هذا الفقر ؟

"حالة ويلتشمرز هي تلك الحالة التي تصيب المفكرين عندما يعون بأن العالم ليس يسري كما يريدون له أن يكون فيصابون بالإحباط والكآبة والتشاؤم، ظهر لأول مرة في رواية "سيلينا" للكتاب الألماني جون بول".