تنتقل بيننا العدوى كما تفعل نار مستعرة بحقل خصب، عدوى الأمراض والفيروسات والطفرات وعدوى البؤس واليأس وانفجار الأمل. وما نحن في النهاية سوى كائنات تحمل معها عدوى الراحلين والقادمين والحاضرين والغائبين.
نخشى انتقال عدوى الأمراض في ما بيننا، فنهرع للتعقيم والتنظيف والحيطة والحذر، ويكفي أن يتبادر إلى مسامعنا بأن شخصا أصيب بفيروس ما حتى نتجنبه خوفا على أجسامنا الفانية، ووقاية من المصير المخيف نفسه. ونضع أحيانا حدا لعلاقات كبيرة مع أناس مهمين خوفا من أمراض معدية لحقت بهم، فنضحي بالعشرة الطويلة من أجل سلامة هذا الجسد الذي يحملنا ويرعانا.
غير أن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بأمراض الروح وعلل الفؤاد، يكون الحذر منعدما أو شبه منعدم في أحسن الأحوال، فلا نخشى عدوى اليأس ولا الحزن والسوداوية، نخالط ونرافق ونواعد الجميع دون تقييم أو حيطة أو دراسة، ونترك آذاننا وأنظارنا مستباحة لأصحاب النفوس الضيقة، والأرواح المعذبة، ينشرون بيننا القلق والخوف، ويزرعون بداخلنا حصادهم من سنوات الهلع والجبن والفزع.
يحدث أن تمضي أمسية مع شخص قاتم البصيرة ومنعدم الأمل حتى ترى أن حياتك ماهي إلا حماقة كبيرة لا طائل من ورائها ولا متعة في عيشها. ينقل لك كل علله فتنبت بروحك فاكهة فاسدة تكاد رائحتها أن تقودك للهلاك.
ولسوء حظ أرواحنا فإن أمراضها لا تظهر للعيان ما يجعلنا نتراخى في علاجها ولا نعير أمرها أهمية قصوى وبه نسمح لعالمنا أن يغص بمن هب ودب، بمن تسممت روحه وفقد شغفه ونسي حياته، ومن جعل همه وديدنه حياة غيره يدس فيها أنفه، ويحشر فيها رأيه فلا يجني سوى الأرق، من هو في حاجة لمساعدة عاجلة، وعوض ذلك فإنه ينطلق وسط المهيئين لحمل المرض ينشر عدواه.
نحن نتشكل من خلال من نرافقهم، نأخذ منهم ويأخذون منا عادات وقواعد وقناعات وأفكارا وهموما وآمالا. لنكون في النهاية مجموعة من الناس اندمجوا في شخص واحد. وبالقدر الذي تسمح فيه للناس باختراق محيطك والحضور في عالمك، بالقدر الذي تحمل معك من العدوى الشيء الكثير
تقضي ساعتين أو ثلاث، تحتسي فيها شاي العصر وتجالس إنسانا خفيفا بلا أثقال تهوي به للقاع، لطيف الروح ولينها، يحكي لك عن آماله العريضة وأخباره الجيدة عن نجاحاته وطموحاته التي يراها تقترب من قبضته، يبتسم وهو يروي لك المشاكل التي اعترضته والهموم التي حاولت الفتك به، كيف تجاوزها وماذا لقنته. ثم تعود أدراجك تحمل بداخلك شعلة متقدة من الشغف ومشعلا عاليا من التصميم على الفرح. تصاب بعدوى الشغف وإتمام السعي، فتقرر أن تستمر على دربك الذي لا تكف طرقه عن الالتواء وأنت تحمل بداخلك بأسا لا ينهار.
العدوى قائمة بيننا ننشرها أينما حللنا، وهي إما عدوى عذاب أو عدوى شفاء. فننسى أن ما ينقله لنا السوداوي لا بد أن يجعل شيئا من سواده خلا تصعب علينا مفارقته، وما ينقله لنا المتفهم الهادئ الشغوف لا بد أن يجعل من شغفه وهدوئه رفيقين لنا نحمل شيئا منهما لوقت طويل من الزمن.
قد يكون من الواجب علينا، تماما كما نحمي أجساما رخوة من لحم ودم وعظم من العدوى والأمراض، أن نحمي الروح التي تبعث في هذا الجسد الحياة، وتمنحه القدرة على رؤية الجمال ومعانقة الكمال، من عدوى الملتاثين وأمراض المتسممين، تجنبهم قدر المستطاع. والمحاولة الدائمة للعثور على المبتهجين بكل ما لديهم بسيطه وكبيره، الحاملين للواء الفرح وشعار السرور كيفما كانت الأحوال والظروف لعلنا نصاب بعدواهم ونحمل داخلنا شيئا من جمالهم.
التعليقات