ملاحظة قبل البدء: إذا نويت قراءة الرواية فلا تقرأ هذا المقال لاحتوائه على حرقٍ كاملٍ للأحداث وتفنيد بعض تفاصيل الخاتمة.

عندما قرأتُ (الخيميائي) للمرّة الأولى أمسيتُ زاهداً بها، فاخترتُ لها مكاناً في رفوف المكتبة السفلى حيث أضعُ من الكتب ما أفقد الرغبة بالنّظر فيه مرةً أخرى، كان ذلك في أعوامٍ مضت.. ولأنّ القارئ يمرّ بأطوارٍ وتقلباتٍ شتّى، فقد حدّثني حدسي بأنّ أقرأها مرّةً أخرى نزولاً عند ما يحوطه بها أرباب الأقلام من المديح والإطراء. فأعدتُ قراءتها مرّةً متأنّية، بعد أن تنكّرتُ لموقفي الأول منها لما يقتضيه مقام الحياد، فوجدتُ فيها ما يستلزم التفكّر والنظر والإنصات، وكتبتُ-لأحيطكم بها- النقاط الآتية:

بطل الرواية شابٌ اسباني يُدعى (سانتياغو)، وهذا الإسم لا يذكره الكاتب إلا مرتين: واحدة في مبتدأ الرواية وواحدة في فصل الختام، وما عدا ذلك فإنّ الكاتب لا يذكر بطله إلا بلقب (الشاب)، ولا أعرف سبب ذلك ولم أعره اهتماماً.

أحبّ الشاب منذ طفولته التجوال بين البلدان والعمران ومشاهدة البحار والقفار والصحاري البعيدة، فألِف من أبيه رفضاً كونه

يريد لابنه أن يكون راهباً، وبعد حوارٍ قصيرٍ استسلم الأب لطلب ابنه وتذكّر أنّه في شبابه كان يملك الحلم نفسه، فقرر أن يحقق لولده طموحه المُعطّل فنقده ثلاث قطعٍ ذهبية ونصحه أن يبتاع قطيعاً، لأنّ الرعاة وحدهم يجوبون الأرجاء بحريّةٍ مطلقة، يأكلون ويشربون ويبيتون ليلتهم أينما حلّوا وارتحلوا، يحيطهم هواءٌ طلق، وخلوة ممزوجة بأنفاس الكون الرحيب.

وهكذا صار (سانتياغو) راعياً حرّاً طليق، يبيت الليل مع غنماته في كنيسٍ عتيق، وفي الصباح يرتحل بهم ليرعوا أعشاباً وزهراتٍ نابتة على جنبات الطريق. وهو معهم لا يملك من الدنيا إلا معطفاً وكتاباً وذاك القطيع، وحلماً دائماً بالترحال.

التقى الراعي الشاب بعجوزٍ غجريّةٍ حكيمة ماهرة في قراءة الطالع وتفسير الأحلام، فحدّثها عن حلمٍ يراوده كثيراً، فأخبرته ما معناه أن ثمّة كنزٌ ينتظره عند أهرامات مصر، وعليه أن يقطع الفيافي للوصول إلى كنزه المُنتظر، فإذا حصل عليه فيتوجّب أن يزورها ويعطيها عُشر الكنز. فيقرر الشاب أن يستجيب لأحلامه وأن يبدأ رحلته نحو أهرامات مصر البعيدة. وأن يحقق أسطورته الشخصية، وهنا تبدأ الحكاية.

يتعرّض الشاب الراعي لمصائب كثيرة خلال رحلته فيُسرَق قطيعه، ويفقد كتابه ولا يبقى لديه ما يقيم أوده أو يعينه على مواصلة السفر، فيعمل عند بائع زجاجيات، ويلتقى بملكٍ وتاجرٍ وكثيرٍ من المستهزئين واللصوص، ويتعلّم الحكمة من أقوالهم وأفعالهم وينال مالاً جديداً لمواصلة السفر.

يلتقي الشاب بإنجليزيٍ لديه طموحٌ مُشاكِلٌ لطموحه، فيترافقان نحو مصر صُحبة قافلةٍ كبيرة، وتتهاوش في الطريق عشائرَ وقبائل متنازعة فتنزل القافلة عند واحةٍ ويطيل بهم المقام بانتظار انكشاف غمامة الحرب. ولايزال الشاب يقضي وقته بمخالطة الناس والجلوس إليهم والحديث معهم والاغتراف من حكمهم وتجارب حياتهم.

خلال إقامته عند الواحة يلتقي بجيشٍ شجاع وجيشٍ استبدّ به الخوف والتخاذل، ويستمع لبعض قادة الجيوش والرجال الملثمين ومستطلعي الطرق، ويتعرّف بفاطمة التي يحبّها حبّاً لايفارق القلب، ويكون شاهداً على مجازر دامية، وينال حظوةً عند زعيم قبيلةٍ وكلهم يرتحلون في ركائبهم كما أتوا ولايزال الشاب يضع حلمه بين عينيه بالوصول إلى الأهرامات وإيجاد كنزه الغالي الدفين.

في الربع الأخير من الرواية فصلٌ عظيم جعلني اختار البقاء إلى جنب الشاب متمنّياً لو كنت رفيقه في السفر لأشهد معه غليان هذه الأحداث وما يتمخّض عنها من علوم الحياة وحكمتها. هنا في هذا الفصل ينشأ حوارٌ وجدانيٌّ بين الشاب والصحراء، ثم بينه وبين الريح، وبينه وبين الشمس، ثمّ حوارٌ خلال صلاةٍ قلبيةٍ بين الشاب و(اليد التي كتبت كل شيء)، هذا الفصل يضع (كويلو) في مصاف المتصوفين أنقياء القلب لفرط الصفاء الروحي الذي يعمّ الحوار، وهنا تكاثفت في ذهني استيهامات أفضت بي إلى نشوةٍ روحية، وسعادةٍ غامرة بهذا النصّ العميق الذي لايستطيع كل قارئٍ كشفه إلا بحسب طاقته وجهده.

يُظهر الكاتب باولو كويلو إطّلاعاً واسعاً على التراث العربي والإسلامي، ويثبت اهتمامه بالكثير من التفاصيل الدقيقة حول الصحراء وطرائق المعيشة فيها، ويستلهم شيئاً من قصص القرآن الكريم (كقصة يُوسف عليه السلام) ويقتبس من الحكم والأمثال العربية شيئاً كثيراً.

عملياً لا يمكن اعتبار أنّ الحكاية مبتكرة بشكلٍ كلي، لكن من الواضح جدّاً أن الكاتب استلهم بعض أقاصيص التراث العربي في روايته. (ويمكن للمشكّكين العودة إلى قصص ألف ليلة وليلة، أو كتاب الكشكول للتأكد)، هذه ليست تُهمة و(كويلو) لا يسرق نصّاً أدبياً، لكن لكثرة التشابه بين رواية (الخيميائي) وقصة إحدى ليالي ألف ليلة وليلة، (تحديداً القصة ذات الرقم 351) يبدو أنه استملح تلك القصة من تراثنا وتوسّع بها جاعلاً منها رواية، ولو ذكر ذلك في مستهلّ روايته لكان أسلم له، لكنّه ظنّ أن أحداً لن يكشف له ذلك بحجة أنّ (العرب لايقرؤون). والواقع لايمكن تسمية ذلك بالسرقة الأدبية فقد فعلها قبله امبرتو ايكو، ولويس خورخي بورخيس، وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم كثير، وكلهم اقتبسوا من قصص ألف ليلة وليلة في أعمالهم التي أدهشت القرّاء.

بالعودة إلى الرواية، يصل الشاب إلى أهرامات مصر آخر محطات السياحة، ويرى هناك جُعلاً من تلك التي كان يقدسها الفراعنة، فظنّها إشارةً إلهيّةً له بالحفر لاستخراج الكنز الدفين، فرآه شخصٌ فاستخفّ به وسأله عن شأنّه، فحكى له الشاب عن حلمه بكنزٍ عند الأهرامات وأن العجوز الغجريّة وجّهته للرحيل واستخراج كنزه وتحقيق أسطورته الشخصية، فضحك المصري حتى انقلب على ظهره وأخبره أنه رأى في منامه أحلاماً كثيرة تخبره أنّ في كنيسةٍ مهجورةٍ في اسبانيا كنزاً عظيماً ينتظره، ولكنه اعتبرها مجرد أضغاث أحلامٍ لم تبعث في قلبه إلا الفتور.

صُعق الراعي الشاب بكلام المصري، فقد وصف الكنيسة نفسها التي كان يبات الراعي بها مع نعجاته، فعاود السفر قافلاً نحو بلاده وهناك استخرج كنزه الموعود من الكنيسة، وقرر أن يعطي العجوز عُشر الثروة ويرحل من جديدٍ نحو واحة الصحراء ليتزوّج بحبيبة قلبه (فاطمة) وهكذا تنتهي الرواية.

شخصياً لا أعتبرها من أفضل ما كتب (باولو كويلو) على الإطلاق كما لا أعتبرها من أفضل ما قرأت، لكنها رواية جيدة يمكن أن نستخلص منها بعض الاقتباسات والحكم الجميلة، وهي من الأعمال التي تشحذ القارئ لمطاردة حلمه وأن يتحمّل مقابل ذلك مرارة الهزائم المؤقتة.

لشهرتها صدرت الرواية عن جميع دور النشر العربية، أمّا نسختي فقد صدرت عن دار الباحث / سورية، بترجمة موفّقة لفاطمة النظامي، وقد عَدَلتُ عن موقفي السابق في حشر الرواية في رفّ المكتبة الأخير إلى الرفّ الذي فوقه.