الأخلاق البيئية: نحو وعي أخلاقي مستدام بعلاقة الإنسان بالطبيعة
مقدمة
اود التطرق في مقالي هذا إلى الحديث عن الأخلاق التطبيقية والفرق بينها وبين فلسفة الأخلاق، وبيّنا كيف أثّر التطور التكنولوجي في نشأتها، وأدى إلى ظهور مباحث متعددة تناقش مشكلات أخلاقية متنوعة؛ فإن الإنسان، بصفته كائنًا فعّالًا وله أثر واضح في الطبيعة، ساهم في بروز فرع هام من فروع الأخلاق التطبيقية، وهو الأخلاق البيئية، الذي يهدف أساسًا إلى مراجعة علاقة الإنسان بمحيطه البيئي، وما له وما عليه تجاهه.
في ظل الأزمات البيئية المتفاقمة مثل تغيّر المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث، تنامت مشكلات البيئة، وبرزت الحاجة إلى مقاربة جديدة للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، تتجاوز النظرة النفعية الضيقة، نحو منظور أخلاقي شامل. فقد تغيّرت علاقة الإنسان بالوسط الطبيعي، من موقف المستفيد من خيراته، إلى موقف المستغلّ الذي جاوز حدود الطبيعة. ومن هنا ظهرت الأخلاق البيئية كفرع فلسفي وعلمي، يسعى إلى إعادة تنظيم هذه العلاقة، على أسس من العدالة، والمسؤولية، والاحترام المتبادل بين الإنسان وسائر الكائنات الحية، بل وحتى المكونات غير الحية في البيئة.
أولًا: ما هي الأخلاق البيئية؟
الأخلاق البيئية (Environmental Ethics) هي دراسة فلسفية للعلاقات الأخلاقية بين الإنسان والبيئة، بدأت بالتبلور في ستينيات القرن العشرين، لكن لم تُعرف كتيار مستقل إلا في منتصف السبعينيات، حين تصاعد الوعي بآثار التقنيات الصناعية وظهرت مشكلات بيئية كبرى، مثل: التصحر، تآكل طبقة الأوزون، تلوث البحار، وانقراض أنواع متعددة من الكائنات الحية.
ورغم محاولات العلم في حل تلك المشكلات، فإن الحل لا يكمن في الأدوات العلمية وحدها، بل يحتاج إلى استيقاظ الضمير الأخلاقي وتحميل الإنسان المسؤولية عن سلوكه. من هنا ظهرت فكرة أخلاقيات البيئة، باعتبارها دعوة لاستنهاض القيم الأخلاقية في تعاملنا مع الأرض وما عليها.
ثانيًا: الجذور الفلسفية والعلمية للأخلاق البيئية
رفض الفيلسوف تشارلز تايلور تبعية الأخلاق البيئية لفلسفة الأخلاق التقليدية، ودعا إلى استقلاليتها، وعرّفها بأنها: "دراسة للعلاقات الأخلاقية التي تنشأ بسبب تفاعل البشر مع بيئتهم." وتطرح هذه الأخلاق أسئلة عميقة مثل:
هل للطبيعة قيمة ذاتية؟
هل للكائنات غير البشرية حقوق؟
ما واجبنا تجاه الأجيال القادمة من البشر وغير البشر؟
ترتكز الأخلاق البيئية على تقاطع ثلاثة أبعاد رئيسية:
1. الفلسفة الأخلاقية:
التي تبحث في مفاهيم الخير والشر، والواجب والحق، مثل نظريتي: النفعية (Utilitarianism)، والواجبية (Deontology)، وقد طُبقت على القضايا البيئية.
2. الفلسفة البيئية:
كما دعا الفيلسوف هنري سكوليموفسكي إلى إنتاج "نموذج عقل جديد" يتصالح مع القيم والطبيعة. وضع 12 خاصية لفلسفته البيئية، منها: الشمول، الحكمة، الوعي السياسي والبيئي، الالتزام، والروحانية.
3. البيئة والإيكولوجيا:
فرّق الفيلسوف أرني نايس بين "الإيكولوجيا العميقة" و"الإيكولوجيا السطحية". فبينما تسعى الأولى إلى تغيير جذري في علاقة الإنسان بالبيئة، تكتفي الثانية بحلول مؤقتة وقوانين تنظيمية.
4. العلوم السياسية والاقتصاد البيئي:
وهي التي تدرس كيفية سنّ تشريعات وسياسات بيئية عادلة، تراعي مصلحة الأفراد والكوكب في آن.
ثالثًا: نظريات أثّرت في العلاقة بالبيئة
1. نظرية مركزية الإنسان (Anthropocentrism):
تُعلي من شأن الإنسان وتعتبره محور الوجود، مما أدى إلى استغلال البيئة بوصفها وسيلة فقط. وقد رفض هذه الفكرة المفكر لين وايت، ودعا إلى توسيع دائرة الواجب الأخلاقي لتشمل جميع الكائنات.
2. نظرية أخلاق الأرض (Land Ethics):
اقترحها الفيلسوف ألد ليوبولد، وتهدف إلى تحويل الإنسان من كائن مهيمن على الأرض إلى عضو مسؤول في الجماعة البيئية. فالمعيار ليس المنفعة الاقتصادية، بل الحفاظ على توازن النظام البيئي
رابعًا: المبادئ الأساسية للأخلاق البيئية
1. الاستدامة: ضمان استمرار الموارد للأجيال القادمة.
2. القيمة الذاتية للطبيعة: الطبيعة لها حق في الوجود، بغض النظر عن فائدتها للإنسان.
3. المسؤولية البيئية: الإنسان مسؤول عن نتائج أفعاله البيئية، المباشرة وغير المباشرة.
4. العدالة البيئية: تحقيق توزيع عادل للأعباء والمنافع البيئية بين المجتمعات.
5. مبدأ الحذر البيئي: الوقاية قبل الضرر، خاصة في ظل غموض الأثر البيئي لبعض الأنشطة.
خامسًا: تطبيقات الأخلاق البيئية في الواقع
في السياسات العامة: صياغة قوانين تحمي الطبيعة وتقلل الانبعاثات.
في التعليم: ترسيخ مفاهيم الوعي البيئي في المناهج التربوية.
في الحياة اليومية: كترشيد الاستهلاك، تقليل النفايات، واستخدام الطاقة المتجددة.
سادسًا: التحديات التي تواجه الأخلاق البيئية
النزعة الاستهلاكية: حب التملك يعوق التوازن البيئي.
ضعف التشريعات: في بعض الدول لا توجد قوانين بيئية كافية أو فعالة.
الفجوة الثقافية والمعرفية: تختلف نظرة الشعوب لقيمة الطبيعة، كما يعاني كثيرون من ضعف الوعي البيئي.
بعد هذا العرض لمباحث الأخلاق البيئية، ندرك أنها ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة أخلاقية وعلمية في زمن تهدّد فيه الأزمات البيئية كوكب الأرض كله.
ألا تستحق الأرض التي نحيا عليها منا احترامًا ورعاية؟
ألم يقل العزيز الجبار تعالى:
"وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30)
"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود: 61)
"ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" (الأعراف: 56)
إذن، لا بد من إعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة، عبر وعي جديد يرى الإنسان كجزء من النظام البيئي، لا سيدًا عليه.
وعيٌ أخلاقي مستدام، هو مفتاح المستقبل، ومفتاح النجاة.
حتي لا يكون الانسان عدوا لنفسه ويكون الفساد من عمل ايديه
كما قال العزيز تعالى "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" (الروم: 41)
التعليقات