في جزيرة

في بحرٍ واسعٍ كانت هناك جزيرة - جزيرة جميلة بأشجارها المختلفة وحيواناتها المتنوعة. كانت فيها ثلاثة أفراد: رجل وامرأة وطفل. يبدو أن الطفل ابن الرجل والمرأة. كان الثلاثة جالسين، الرجل والمرأة يستران نفسيهما بأوراق مربوطة ببعضها، بينما الطفل لا يرتدي شيئاً، فقد كان جالساً بينهما. وكان الرجل والمرأة يضحكان، وابنهما يضحك معهم. هو لا يفهم لماذا يضحكان، بل لا يفهم ما هو الضحك، ولكن كان يتبع والديه. جو جميل من حنان متبادل بين الثلاثة. كان الوقت يمر ومازالوا يتحدثون ويضحكون.

وكان الطفل وجد قد تعب بالفعل، بدأ يتكئ على الأرض ويغمض عينيه، لينادي قائلاً: "ماما، ماما، اسكتا، لا أستطيع النوم". ضحكت الأم ولكنها سكتت بعدها، ليبتعد الاثنان وينام وجد في راحة أخيراً. كان النوم مريحاً وجميلاً، في لحظة يهدأ فيها كل شيء.

مرت الأيام على هذا المنوال: يصطادون قوت يومهم، يأكلون، يتحدثون وينامون. لا أحد يعلم كم مرَّ تحديداً، ولكنه وقت طويل، اكتسب فيه وجد قدرة على المشي وتدبير أموره. في أحد الأيام، غطس الرجل في البحر، لقد أخذ وقتاً ولم يخرج. انتظار وبعده انتظار، لكن لا شيء. حتى تبعته المرأة ثم لم تظهر هي الأخرى. كان وجد جالساً وحيداً على صخرة، والشمس بدأت تختفي، ولا أبوه ولا أمه قد ظهرا. قد بدأ يغلب عليه النوم، ليقرر أن ينام.

في اليوم التالي لم يظهرا أيضاً. لا يعرف وجد أين هما وماذا يمكن أن يفعله. بقي في مكانه ينظر إلى البحر، لا يرى سوى امتداد أزرق. وفجأة نادى: "أمي! أمي! أمي!" ولكن لا صوت يُجيب.

حينها شعر وجد بأنه قد بدأ يشعر بالجوع، فاستدار ليصطاد شيئاً يأكله. ولكن قبل أن يذهب، استدار مرة أخرى نحو البحر، ثم ذهب. بينما كان يسير، كان يراقب خطواته، ويقوم بإبعاد وتقريب قدميه بنسق معين حتى يستطيع أن يراقبهما دون أي تعبير. حتى رأى أخيراً صيده: كان أرنباً متوسط الحجم. وكان وجد يملك رمحاً كان ملك أبيه، ليرميه، وكانت إصابة موفقة. أمسك الأرنب الميت ولا يعرف ماذا يفعل الآن، فكان قديماً يصطاد ثم يحصل على لحم جاهز من أمه. حتى بدأ يغرز فيه برمحه، ثم بأسنانه. دماء تتطاير، وشعر فرو الأرنب يزعجه في فمه، حتى وصل إلى قطعة لحم أكلها كلها، ثم رمى الجثة. الشمس بدأت تختفي، إنه وقت النوم. لقد نام وجد.

في اليوم التالي وبقية الأيام، كان الروتين نفسه: يستيقظ، ينادي أمام البحر، يصطاد، يشرب، يأكل، ينام. يُعدّ مدة. كان وجد جالساً أمام البحر، بينما الشمس قد بدأت في الغروب. على غير عادته، فقد كان هذا الوقت بداية اقتراب موعد نومه، ولكن اليوم حيّره منظر الشمس على البحر: في تموجات تتصاغر كلما ابتعدت. ثم نام.

في يومٍ ما، كان وجد يتجول في الجزيرة، حتى رأى مجموعةً من الأرانب الصغيرة المجتمعة حول أرنب كبير، يبدو أنه أبوهم أو ربما تكون أمهم. ولكن الجوع كان يغلب على وجد، فرمى بسهمه ليصيب الأرنب الكبير وأرنباً صغيراً. لقد هربت بقية الأرانب، ومات الأرنب الصغير، بينما بقي الأرنب الكبير يحتضر بجانب ابنه حتى مات هو الآخر.

عندما اقترب وجد، نظر إلى الأرنبين لمدة وجيزة. شعر بشيء غريب. حاول الكلام ولكنه لم يستطع. يبدو أنه نسي طريقة الكلام. حاول أكثر من مرة ليستطيع أخيراً قول: "إيمي... إيمي... أمي... أمي". لقد كان قادراً على الكلمات. اتبعها بـ: "أبي... أمي... أمي... رمح... يمكنني الأكل... أشعر بالجوع".

جلس وجد على ركبتيه بينما كان يفتح الأرنب الكبير أولاً. كان رأسه يؤلمه من الوقت للآخر. كان يضع يده على رأسه ثم يتبع بأصوات من الانزعاج: "آه... أو... امم..." لا يعرف ما هذا، ولكنه شعور.

بعد مرور وقتٍ ليس بالطويل، استيقظ وجد في أحد الأيام مفزوعًا، والعرق يتصبب من كامل جسده. يبدو أنه كابوس. لم يدم الحال هكذا طويلاً حتى عادت نفس الملامح الباردة لوجد. وقف ثم حمل رمحه يبحث عن ما يأكله. مر بجانب البحر في طريقه، لا شيء سوى السكوت.

هذه المرة جلس يتأمل طويلاً حتى سقط الرمح من يده. بدأ يتذكر ذلك الكابوس: إنها أمه وأبوه جالسان بجانبه حتى غرقا فجأة، ثم غرق هو الآخر. الماء يغمره، إنه شعور مزعج من الضيق، كانه مغمى عليه، حتى أفاق مجددًا. نظر متأملًا في البحر وقال: "أمي... أبي... لا... لا... لا أعلم ماذا حدث". ثم سكت وأكمل طريقه.

توالت الأيام على هذا الحال دون أن يدرك وجد الوقت الذي مر عليه. كل يوم يمر يستيقظ ليأكل ويشرب وينام. في يومٍ اصطاد باكرًا وبقي له وقت كافٍ قبل غروب الشمس، وقد أصبح في الأيام الأخيرة كلها يبقى له الكثير من الوقت بسبب اصطياده السريع، فكان يجلس فقط. ولكن اليوم رأى شيئًا غريبًا: إنهما طيران يطيران مع بعضهما بانسجام تام، وبعدها جلسا على غصن وبدأ واحد منهما يحرك رأسه قرب الطير الآخر، وكانه نوع من المزاح. نظر فيهما وجد باستمرار وهو لا يفهم ما هذا.

في يوم آخر جلس وجد أمام شجرة وبدأ يتحدث قائلاً: "هممم... ااااه... ااااه... نممم... نععم... نعم... إيمي... أمي... أبي". كان يمضي الكثير من الوقت بجانب تلك الشجرة يتحدث لها دون أن تجيب. حتى في يوم من الأيام بدأت أوراقها تتساقط، شعر بالحزن، ولكنه اصطاد وأكل ونام.

بعد مرور وقت من ذلك اليوم، كان وجد يمشي يحك الشعر الذي ملأ وجهه. لا شيء من حوله سوى الأشجار والحيوانات. أثناء مشيه، سقط وجد أرضًا. لم يشعر أنه يستطيع أن يقف، بل كان يملك القدرة الجسدية ولكن لا يستطيع. بقي على حاله حتى جوعه لم يوقظه. إنه يشعر بألم شديد في أطرافه، ولكن رغم ذلك هو يشعر بالراحة. إنها ليست راحة بالمعنى التقليدي، بل يبدو أنها نوع من غياب الألم. وتقريبًا في منتصف الليل، وقف وجد أخيرًا، ليس ليبحث عن طعام، بل ليتوجه إلى البحر.

عندما وصل، شعر أنه يريد شيئًا ولكنه لا يعرف ما هو، ولا يمكنه الوصول إليه. نظر إلى ذلك المكان الذي - حسب ما يتذكر - كانا فيه شخصان لا يتذكر شكلهما. ولكن في لحظة من التعب والسقوط، سقط في البحر ليطوى هو الآخر في صفحات النسيان، كما حدث للشخصين اللذين تذكرهما.

اللاجدوى

عندما كان "وَجَد" يضحك لأنه رأى والديه يضحكان، هو لم يفهم حديثهما ولكنه اتبعهما. ستجد هذه الحالة عند الأطفال حيث يضحكون حين يضحك الكبار. إنه أمر مهم، حيث يصور لنا هذا التصرف رغبة إنسانية عميقة من الاحتياج والتواصل؛ فَالطِّفْل يرى في ضحكه نوعًا من التواصل مع أهله. كما أننا نجد الأطفال أكثر تعلقًا بالناس منّا، بحيث إننا نحاول منذ الطفولة تكوين العلاقات واتباع الناس، وفهم ما يعنِي أن تكون لدي علاقة مع شخص آخر، مع إنسان آخر.

ربما تعود هذه الرغبة العميقة في العلاقات لأن الإنسان بطبعه اجتماعي. ولكن لماذا نحن اجتماعيون؟ باختصار، لأننا نجد في الآخر ليس مجرد علاقة، بل مرأة لأنفسنا. إذن، فإننا باستعمال الشخص الآخر يمكننا فهم أنفسنا بطريقة أو بأخرى: بتصرفاتنا، بردود أفعالنا، وتعبيراتنا، وغيرها. كما أن العلاقة الإنسانية تعتبر مصدرًا عاطفيًا قويًا، أو منفذًا عاطفيًا. كيف؟ لأننا بوجود علاقة في حياتنا نشعر بالرضا، بالعاطفة، بالسعادة، بالاستقرار، وهذا مصدر عاطفي قوي. كما أن العلاقة يمكن أن تزيل جزءًا كبيرًا من الهم أو الضعف؛ حيث يمكن أن يكون حوار واحد مع أمك أو زوجتك أن يُحسِّن يومك بالكامل. وهذا هو سبب وجود العلاقات في حياة الإنسان.

بما أن حياة الإنسان منذ بدايتها تكون مليئة بالعلاقات، وأولها العلاقة بين الطفل ووالديه – كما بدأ "وَجَد" – ولكن فجأة اختفت أمه وأباه، الشخصان الوحيدان اللذان كان يُكَوِّن معهما علاقة. اختفيا! إنه أمر صعب، صحيح، ولكنه غالبًا لا يحدث بهذه الطريقة؛ فنادرًا ما يموت أو يختفي الوالدان دفعة واحدة، وحتى إن حدث، فسيبقى هناك أناس آخرون يقدمون نوعًا من العلاقات. ولكن الأمر يحدث بطريقة مختلفة؛ بحيث إن الإنسان في بداية حياته يكون مملوءًا بطاقة إيجابية وانفعال حماسي، يرى أن كل الناس طيبين وجيدين، ولكن مع الوقت تبدأ تلك الطاقة بالاختفاء. فكل موقف صعب، وكل لحظة سيئة، وكل اكتشاف مريع، ينقص تلك الطاقة ويحولها إلى نوع من الضعف الوجودي. إذن، فإن الإنسان حينها يكره وجوده، يتألم أكثر مما يفرح. المجتمع لم يتغير، ولكنه اكتشفه على حقيقته. مع الوقت تبدأ علاقاته بالانخفاض، تصبح العلاقات تأخذ أكثر مما تعطي، فيتجنبها تمامًا.

وهذا ما يحدث لنا – عكس "وَجَد" الذي اختفت كل علاقاته دفعة واحدة – فنحن نفقدها ببطء وألم، كجرح لا يتوقف عن النزيف، بل يزيد ألمًا حتى تختفي كل علاقاتنا. هي لا تختفي تمامًا، بل تصبح سطحية لدرجة أن وجودها كعدمها. بعد أن يعيش الإنسان هذه المرحلة ويتألم بشكل كافٍ، بحيث يرى أن الألم هو الروتين العادي، فإنه يصنع عالمه الخاص – كما فعل "وَجَد" حين تكلم مع الشجرة – سيختلق شخصًا مثاليًا لا يخطئ، يتبعه، يدعمه، يصحح له، لا يتركه أبدًا. كل هذا في مخيلته سيعطيه شعورًا من السعادة، ولكنها سعادة مؤلمة. فبعد أن تعيش مع هذا الشخص المثالي، ستضعف قدرتك على تخيله، سيقل تواصلك به، تبدأ في الرجوع للواقع أكثر فأكثر، كشجرة سقطت أوراقها، حتى يختفي تمامًا.

أما الآن، فأنت في مرحلة أسوأ: مرحلة لا تشعر فيها بالألم، ولكنها ستكون أسوأ مرحلة قد تعيشها، وهي اللاجدوى. في هذه المرحلة يتجرد الإنسان من مشاعره، فلا يشعر بالسعادة ولا بالحزن، ولا بالحماس ولا بالخمول، لا يشعر بأي نوع من المشاعر. ستصبح أبسط مهمة مهمة شديدة الإرهاق. الإنسان العادي عندما يستيقظ من النوم، يقوم من فراشه، لكن المصاب باللاجدوى سيسأل: لماذا أستيقظ أساسًا؟ لماذا أعيش؟ فكل مهمة تصبح صعبة، سيصبح في حالة من العبث الوجودي. ولكن ليس أي نوع من العبث؛ ليس ذلك النوع الذي يدرك أنه في عبث الحياة ولكنه يواصل الحياة، أما هذا فلا يستطيع حتى إن أراد أن يبحث عن إجابات لتلك الأسئلة، لأنه لا يشعر بدافع، لأنه لا يملك شعورًا. فمثلاً في الاكتئاب، أنت تشعر بألم، بالحزن، رغم أنه شعور سيئ، ولكن المهم أنه شعور. المهم أنك مازلت تشعر أنك إنسان، لأن الألم جزء من الإنسان.

عندما سقط "وَجَد" أرضًا، كان يستطيع الوقوف، فقدرته الجسدية تسمح له بذلك، ولكنه لم يقف، حتى عندما جاع. ربما سأل: لماذا مازلت أعيش؟ ما الهدف من كل هذا؟ فهو أصبح في حالة من اللاجدوى، وإن كان غير مدرك لذلك. فهو لم يعلم أن أبويه ماتا غرقًا، ولكن قرر أن يتبعهما لربما يحصل على إجابات، ليموت هو الآخر. فحتى نحن أحيانًا، كمحاولة أخيرة، نقرر الانتحار كمحاولة أخيرة للنجاة، للحصول على إجابات، ولكن النتيجة هي عدم لا متناهي.

اذا مالذي يمكننا فعله ؟

حقيقةً، لا يمكننا فعل شيءٍ حيال هحقيقة هذا الفراغ الوجودي. بل إن أجدادنا حاولوا التخلص من هذا الفراغ بطريقة مشهورة جداً، ألا وهي الدين. حيث يأتي الدين كمُقدّم إجابات عن الخلق، كمنقذ من النهاية، كإجابات سهلة كي لا يغرق الإنسان في دوامة من العبث واللاجدوى. لهذا تجد قليلاً من المتدينين ينتحرون، لأنهم ببساطة استطاعوا الهروب من هذا الصراع الداخلي عن طريق الدين.

بينما المهمة بالنسبة للملحدين أصعب بكثير، لأنهم يواجهون هذا العبث مباشرة، ولم يستطيعوا تصديق الدين، فمن الصعب عليهم أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في هذا العالم. لذا فإنني لا أقول لك أن تترك دينك، ولكن يجب أن تعرف أن الدين وُجِد أساسًا لتخليص الإنسان من هذه الدوامة.

أما إن كنت غير مؤمن، فماذا يمكن أن تفعل؟ باختصار، عليك أن تقبل وجودك حتى ينتهي. فوجودك ووعيك هو صدفة جينية بحتة، وهذه الصدفة نادرة الحدوث. لذا عش، وحاول تحقيق أحلامك، لكن بواقعية. لأنك ستعيش لمدة معينة وستذهب بعدها إلى العدم. فكل لحظة من حياتك لها قيمة.

وهناك سؤال مهم: إذا ذهبت إلى العدم، فلماذا أتعب نفسي؟ والجواب باختصار: لكي تستفيد من هذه الفرصة بأفضل شكل. ففكرة أن تقتل نفسك - رغم أنها قد تبدو صحيحة بالنسبة لمنفذيها - ولكنها غير ذلك. فبالرغم من وجود حزن شديد في هذا العالم، وبالرغم من أن الكثير من الناس ليسوا كما تريد، إلا أن هذا لن يغير حقيقة أن هناك سعادة في العالم وعلاقات جميلة من الصعب التخلي عنها.

وأخيراً، يمكنني القول إن الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله لتجنب الوقوع في دائرة اللاجدوى هو أن نقبل بعبث الحياة، أن نقبل الحياة كما هي، ليس كما نريدها.