هذا السؤال من أقدم وأعمق الأسئلة الفلسفية التي شغلت عقول الفلاسفة، والمتكلمين، وعلماء النفس على مر العصور.

فمنهم من يرى أن الإنسان مسيّر، فما هو إلا نتاج لطفولة لم يخترها، وبيئة عاش فيها، ودين لم يختَرْه، واسم لم يختره، وحتى الزمن الذي وُجد فيه، لم يكن من اختياره.

الفلاسفة الجبريون يرون أن الإنسان مسلوب الإرادة، وأن كل أفعاله نتيجة لحتميات سابقة: بيولوجية، اجتماعية، ونفسية.

مثلًا، يرى “ديفيد هيوم” أن حرية الإرادة مجرد وهم.

أما الفلاسفة الحرّيون، فيؤمنون بحرية الإرادة.

مثل “جان بول سارتر”، الذي يرى أن الإنسان محكوم عليه بالحرية، أي أنه لا يملك خيار الهروب منها، فهو مسؤول عن كل فعل يقوم به، حتى الصمت…

أما في منظور القرآن الكريم، فقد جاء الطرح متوازنًا بين التسيير والاختيار، إذ بيّن أن الإنسان يملك إرادة وقدرة على اتخاذ القرار، لكن ضمن إطار المشيئة الإلهية العليا.

الإرادة والاختيار:

وردت آيات صريحة تؤكد أن الإنسان مخيّر، وأنه مسؤول عن أفعاله:

“وهديناه النجدين” – [البلد: 10]

أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر.

“من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها” – [فصلت: 46]

دلالة واضحة على أن الإنسان يجني نتائج اختياراته.

“كل نفس بما كسبت رهينة” – [المدثر: 38]

تؤكد أن كل إنسان مسؤول عن ما كسبه بعمله.

التسيير في إطار المشيئة الإلهية:

وفي الوقت نفسه، يقرّ القرآن بأن الاختيار لا ينفصل عن مشيئة الله، فالله هو الذي منح الإنسان القدرة على الفعل، وكل شيء يجري بعلمه ومشيئته:

“وما تشاؤون إلا أن يشاء الله” – [التكوير: 29]

إشارة إلى أن الإرادة الإنسانية مرتبطة بمشيئة الله العليا.

التوازن الإلهي:

بهذا، لا ينفي القرآن حرية الإرادة، ولا يترك الإنسان بلا ضوابط. بل هو مخلوق حر ضمن حدود قدره، ومخيّر في نطاق المسؤولية التي يحملها

أما علم النفس الحديث، فيذهب إلى أن 95٪ من تصرفات الإنسان لاواعية، وأن كل ما يقوم به هو نتاج لطفولة لم يخترها، وتجارب شكلته دون أن يشعر.

لكن، حتى لو كنا مسيّرين في بيئاتنا، لا يمكن نفي مسؤوليتنا الأخلاقية.

فالإنسان يملك “مساحة” من الحرية، تتسع مع الوعي والمعرفة.

كلما ازداد وعيك، اتسعت دائرة اختيارك.

حتى لو كنت مسيّرًا في بعض الأمور التي لم تخترها لنفسك، فإنك ما زلت قادرًا على امتلاك الإرادة والاختيار.

الحرية ليست أن نختار كل شيء متاح، بل تكمن في الوعي بالاختيار، أن يدرك الإنسان ما يفعله أو يقرّره… هذه حرية كافية.

أما الجبر فليس سجنًا، فنحن خاضعون لمشيئة الله تعالى ومايريده منا ربما لم نختر بعض الأمور في حياتنا، لكن أمامنا حرية كافية، فالعقل كفيل بالإدراك… وبالاختيار