صنم العادة
كنتُ ولا أزال أراقب سلوك الناس في مجالسهم وفي بيوتهم وفي أسواقهم
فأرى أن أغلب تصرفاتهم ليست نابعة من تفكيرهم الشخصي
بل من تقاليد قديمة التصقت بهم كما يلتصق الظل بالجسد
الواحد منهم لا يسأل لماذا يفعل ما يفعل
هو فقط يفعل لأنه رأى غيره يفعل
وإذا سألته قال هكذا وجدنا آباءنا
وكأن الآباء أنبياء لا يُراجعون ولا يُسألون
وكأن مناقشة العادة خيانة والعقل رجس من عمل الشيطان
الزمن تغيّر والعقول واقفة
مشكلتنا الكبرى أننا نعيش في زمن لا يشبه الزمن الذي أنجب عاداتنا
ومع ذلك نُصِرُّ أن نرتدي تلك العادات كما لو كانت خُلقت لنا نحن
رأيت رجلًا يُحرم ابنته من الجامعة لأن بنات عمّها لم يدرسن
كأن الجامعة لا تُقاس بالعلم بل تُقاس بعدد من سبق إليها من الأقارب
رأيت فتاة تُرفض لأنها من قبيلة أخرى
ورأيت ابنًا يُطرد من بيت العائلة لأنه رفض أن يسمي ابنه على اسم الجد
وكلهم حين تسألهم عن السبب يقولون العادات
وما العادات في هذه الحالات إلا أوهام مشفوعة بالخوف من كلام الناس
التقليد أريح من التفكير
الناس — وهذا من طبيعتهم — يحبون ما يريحهم لا ما يزعجهم
والتفكير يزعج
لأنه يفرض على الإنسان أن يراجع
والمراجعة مؤلمة
أما التقليد فهو سهل
يفعل ما فُعِل من قبل
ويقول ما قيل من قبل
ثم ينام قرير العين كأنه أدى واجبه الكامل تجاه الحياة
العادة حين تلبس قناع الدين
الخطير في عاداتنا أنها لا تكتفي بسلطتها الاجتماعية
بل تتزيّا أحيانًا بلباس الدين
فتتحول من أمر قابل للنقاش إلى أمر لا يُمس
وما أكثر من رأيتهم يحتجون بالدين
وحين تُدقق في قولهم تجد أنهم يحتجون بتقاليد أُلبست الدين زورًا
حتى صار الناس يخافون من سؤال العادة
خشية أن يُتّهموا بأنهم يعبثون بالمقدس
مع أن المقدس الحقيقي لا يخشى الأسئلة
ولا يطلب أن يُحمى بالحراس
من لا يسأل لا يتقدم
لا ينهض مجتمع لا يسأل
ولا يتغير من لا يراجع نفسه
والعادة التي لا تُراجع تتحول إلى قيد
نحن لا نعيش في مجتمع يقدّس العقل
بل نعيش في مجتمع يقدّس السلف
ويضعهم في تماثيل من ذهب
فإذا جاء من يسألهم أو يناقشهم
اتهموه بالخروج عن السطر
ولو أن كل من جاء قبله خرج عن السطر أيضًا
لكنا اليوم لا نعرف لا قمرًا صناعيًا ولا دواء للحمّى
التقاليد لا تُلغى بل تُفهم
أنا لا أدعو إلى كسر كل عادة
فبعض العادات من الجمال بمكان
لكن الجمال لا يعني القداسة
والعادة لا تصبح صالحة لكل زمان ومكان لمجرد أنها قديمة
فلنسأل عاداتنا عن سبب وجودها
ولننظر إن كانت تُصلح حاضرنا كما أصلحت ماضينا
وإن لم تُصلح فمكانها المتحف لا الشارع
الحرية تبدأ من الكلمة
الحرية لا تبدأ من السياسة
بل من كلمة تقولها وأنت تعرف لماذا قلتها
من تصرف تفهم معناه قبل أن تُقدم عليه
أما من يعيش وفق ما يُملى عليه من عادات لا يفهمها
فهو ليس إنسانًا حرًا
بل مجرد ظل يمشي على الأرض
لا يملك من أمره إلا أن يُقال عنه إنه مطيع
ولو أطاع في الخراب
ومن لا يجرؤ على كسر قيدٍ قديم
فلن يُنجب أبدًا فكرة جديدة
التعليقات