من عبقرية الرواقية أيضا، أنها لا تكتفي بإعطائنا إحكام نظرية وتوجيهات فوقية متعالية، بل تعطينا الخطوات العملية لكي نكون سعداء وحكماء وخالين من الألم، بما لا يدع أي مجال لتحجج بعدم معرفة الطريقة، وإن الطريقة الوحيدة في ذلك هي رياضة الفلسفة، فما هي يا ترى؟

رياضة الفلسفة ببساطة هي الفعل، ومن شروط أن يكون الفعل فعلا عند ابكتيتوس، أن يكون محسوب العواقب، ما سبقه وما لحقه، ثم فحص قدرتنا على آداءه وتحمله، فإذا ابدأ العمل عليه فلا رجعة في الأمر بعد ذلك، مهما كانت الأسباب، وإلا سنكون محض أطفال يلعبون دوراً جديدا كل حين.

يبدو الأمر سهلا، إذا كان أحد منا يريد أن تكون عداءً محترفا مثلا، فرياضة الفلسفية هنا يجب أن تسبق كل ما يمكن أن يقدم عليه، فينظر فيما يسبق هذه الرغبة وما يتلوها، ثم ينظر في مدى قدرته على تحمل أعباء هذه الرغبة، وينظر في مؤهلاته وخبراته، ثم يشرع في العمل عليها، وهنا تبدأ العملية الحقيقة في أن يلتزم بهذه الرياضة من خلال الالتزام بالقواعد: الأكل وفق نظام صارم، الامتناع عن لذيذ الطعام، أخذ النفس بالتدريب طوعا وكرها في مواعيد محددة مهما كانت الظروف، وأن يسلم نفسه لمدربه كما يسلم نفسه للطبيب.

هذا الأمر ينطبق على أي رغبة أو هدف يسطره المرء أي كان مجاله أو توجهه، باختصار كل ميسر لما خلق له، فمن علم منا يسيره في أمر فليدخله دون تململ أو تكاسل، وليهب كل وقته وعقله وطاقته لإكماله ويربط على قلبه، ممتنعا عن كل ما يمكن أن يعرقل هذه العملية.

وهذا كلام قالته الرواقية قبل أكثر من 24 قرنا مضى، واليوم هو أساس كل نظريات التحفيز والتطوير الذاتي ، فما أعظم الفكر الرصين الذي لا يسقط بالتقادم بل يزدهر ويشع ـأكثر فأكثر.