من هي الأم الحقيقية؛ هي التي تلد أم التي تربي في رأيك؟

أعتقد أن الأمومة هي مفهوم متعدد الأبعاد ولا يمكن تقييده بمعنى واحد. فالأمومة هي علاقة تربط بين الأم والطفل، وتشمل الجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية والروحية. الأمومة هي أيضًا عملية توليد وتنمية ونشر الأفكار والقيم والثقافة، وتشمل الجوانب الإبداعية والعقلية والتعليمية والتأثيرية.

لذلك، أرى أنه لا يوجد تناقض بين الأمومة البشرية والأمومة الفكرية، بل هما جانبان من جوانب الأمومة الشاملة. فالأم التي تلد طفلًا هي أم بحق، ولكنها ليست الأم الوحيدة التي يحتاجها ذلك الطفل. فهناك أمهات أخرى تساهم في تربيته وتعليمه وتشكيل شخصيته، سواء كانت أقارب أو معلمات أو صديقات أو قدوات. كذلك، الأب أو الأخ أو الصديق أو المعلم يمكن أن يكونوا أمهات فكرية لطفل ما، إذا ساعدوه على إنجاب أفكار جديدة أو تطوير مهاراته أو تحسين مستواه.

يمكن للرجل أن يكون أبًا في محبته وحنانه ورعايته، ولكن لا يمكن لأي أحد أن يكون أمًا، إن الأم كلمة أكبر من مجرد مشاعر أو أفكار، إنها مزيج من كل التفاصيل، بين الجهد والوقت والعاطفة والتربية، وحتى القبول الدائم، لا يمكن لأي شخص مهما كان طيبًا أن يكون أمًا.

بالنسبة لي فإنّ الولادة شيء عظيم، ويستحق أن نضعه بعين الاعتبار، ومع أني أؤمن أن الأم هي التي تربي، إلا أنه لا يمكن أن نغفل عن تلك التي منحتك صحتها وحبها وأنت بين أحشائها، هل يمكن لطفل ماتت أمه وهي تلده أن ينساها، أن يتوقف عن الشوق إليها؟ إنه جزء منها، ولن يستطيع تغيير هذه الحقيقة، وهنا يكون له أمين وليس أم واحدة.

الأم الحقيقية هي التي تربي وتلد، الأم التي لا تربي تلعب دورا ناقصا في المجتمع، بل تلعب دورا سلبيا تماما لا يمكن التغاضي عنه، فالتي لا تربي ستنشئ جيلا فاسد الأخلاق، ونحن نعلم بأن الأم مدرسة فكيف إذ أنها لا تربي، الأم هي التي تلد وتربي، التي تلد فقط قد تبرأت من مسؤوليتها أمام الله والمجتمع.

أعتقد أنّ مشاعر الأمومة التي تحملها الأم نحو وليدها يمكن أن تنشأ بنفس الشكل بين الرجل وأبناءه بالرّغم من أنّ ثقافتنا الشرقية المتزّمتة قد تقف عائقا أمام هذا النّوع من الترابط بين الأب والأبناء. ولكن بكل الأحوال من الممكن أن يتشكل هذا الرابط بين الأب والأبناء ويتعزّز خاصة عندما تكون تربية الأبناء على عاتق الأب. وقد تكون الأبوّة متحرّرة من الرابط البيولوجي وتتكوّن من مجموعة من المشاعر النبيلة وهي كما نراها في أحد الأفلام التركية وهو فيلمMy World. ويصوّر هذا الفيلم نشأة فتاة ضريرة والعقبات التي واجهتها وكيف ساعدها أستاذ الموسيقلى وهو كناية عن الأب الروحي في تخطي هذه العوائق. لم أستطع إلّا أن أتصوّره كأب حقيقي له بالرغم من عدم وجود الرابط البيولوجي.

التي تلد من دون شك، التي تلد طبعاً، وكل تلك المسلسلات والافلام والروايات أيضاً التي تتكلّم عن أم تربّي وأحقيّتها بأن يكون لها الابن برأيي هو كلام فارغ لا أساس له من الصحة، من الذي يستحق البيت، الذي اشتراه أو الذي سكنه؟ الذي ملكه بالقانون أم الذي ملكه بالمشاعر والسكن والذكريات؟ بالطبع لمن يشتريه، ما الذي يتغيّر حين نتكلّم عن بشر؟ برأيي ما يتغيّر العاطفة التي بلا معنى والتي نضيفها إلى هكذا مواضيع لنضيّع أنفسنا ونزيدها عمى، هذا تماماً بالمناسبة ما احتججت عليه في رواية: عائد إلى حيفا لغسان كنفاني، حيث يمكن أن ألخّص رواية غسان بأنّها تردّ الطفل إلى المُربّي، أسوء ما يمكن أن نعترف به وأن نقوله، للمربي؟ ماذا عن جسدي؟ أليس مكوّنه جسدي؟ أن لا أتحدّث هنا طبعاً عن آباء تركوا أبنائهم طواعية، بل عن ظروف قاهرة أجبرتهم على ذلك وعادوا بعد حين، هل يصبح ابني ليس ابني بسبب ذلك؟ نكران برأيي ما بعده نكران.