في أعمق أروقة العلاقات الإنسانية، يكمن شعور اسمه الغيرة؛ شعور قد يبدو بسيطًا على السطح، لكنه في الحقيقة أحد أكثر الانفعالات تعقيدًا وتشابكًا. ليست الغيرة دائمًا دليل حب، ولا دليل شك، بل كثيرًا ما تكون صرخة خفية: “أخشى أن يُسحب منّي ما أُحبّ”.
لكن الإشكال يبدأ حين لا تكون الغيرة من خيانةٍ واقعة أو تصرفٍ مريب، بل من كلمة لطيفة خرجت من فم رجلٍ اعتاد أن يكون لبقًا، حسن الحديث، يوزّع المجاملة كما يوزّع الناس التحيات: بلا نية، بلا مقصد، بلا ظلِّ رغبةٍ عاطفية.
هنا تتحوّل الكلمة العفوية إلى جرس إنذار في أذن زوجته.
ويتحوّل اللطف الطبيعي إلى اتهام بالتقصير أو ميلٍ خفي.
وتتحول نبرة مجاملة بريئة إلى مرآةٍ تعكس هشاشة روحٍ تبحث عن الطمأنينة.
والمرأة، حين تغار من “الكلام”، لا تغار من الكلمة نفسها.
هي تُدرك غالبًا أنه لم يقلها بقصدٍ أنثوي.
ولكنها تغار من ما تتخيله خلف الكواليس:
هل يراها جميلة كما تراها الأخريات؟
هل لا يزال لكلامها عنده الوقع ذاته؟
هل ينال الآخرون من رصانته جاذبيةً لم يعد يمنحها لها بنفس الشغف؟
إنها ليست غيرة من امرأة أخرى؛ بل غيرة من صورة نفسها في عينيه.
والرجل –هنا– يقع بين مطرقة طبعه وسندان تفسيرات زوجته.
هو بطبيعته اجتماعي، يحب أن يكون لطيفًا، لا يعرف الحديث بلا مجاملة، ولا الحضور بلا روح.
هو لا “يغزل”، ولا “يتقرب”، ولا يبحث عن باب خلفي للعاطفة.
هو فقط… طيبٌ بطبعه.
والمشكلة أن الطيبة أحيانًا تتحول إلى جريمة.
في هذا النوع من الغيرة، لا يكون الصراع بين رجل وامرأة، بل بين رؤيتين للعالم:
رؤيته التي ترى اللطف قيمة اجتماعية،
ورؤيتها التي ترى اللطف سهمًا قد ينزلق –ولو بلا قصد– في قلب العلاقة.
ولذلك، فإن الحل لا يكون بتكميم فم الرجل أو تجريد روحه من مجاملاتها، ولا بإقناع المرأة أن غيرتها “سخف”.
الحل الحقيقي هو لغة ثالثة لا تقول الكلمات بل تقول ما خلفها.
أن يخبرها:
“أنا هكذا مع الجميع، لكنّ أصدق لطفٍ في حياتي هو لكِ أنتِ.”
وأن تسمعه:
“لست غاضبة من كلامك للناس، بل من أنني أخاف أن أفقد مكانتي لديك.”
الغيرة هنا ليست صراعًا، بل رسالة.
واللطف ليس تهمة، بل طبيعة.
والعلاقة لا تُبنى على قمع الطباع، بل على فهمها.
فالأصل في المجاملة أن تكون جسراً،
لا فجوة.
والأصل في الغيرة أن تكون دفئًا،
لا نارًا.
والأصل في الحب أن يوسّع القلب،
لا أن يضيّقه.
التعليقات