من العسير بل من المستحيل (في نظري) أن يمر الإنسان في هذه الحياة دون أن يترك محيطه عليه أثرًا ولو كان طفيفًا. التأثر بالبيئة جزء من كيمياء الوجود، إلا أن هذا التأثر يتفاوت من شخص إلى آخر ف بعضنا يشرب الدنيا شربا وبعضنا لا يسمح لها إلا بندى خفيف على أطرافه.
كثيرًا ما تراودني أفكار متلاحقة عن النفس عن الشخصية التي يُقال لنا إنها "فريدة" أو "نادرة". لكن هل هي كذلك فعلًا؟ هل تحمل كل نفس بذرة خاصة لا تتكرر؟ أم أننا في حقيقة الأمر لسنا إلا توليفات بشرية، خلطات من صفات مرت بنا تطايرت من الناس من حولنا، وتسربت إلينا دون إذن أو وعي؟
أنا لا أؤمن أن الشخصية تنبع من الذات وحدها، بل أراها تُجمع كما تُجمع المواد في وصفة طعام قليل من هنا، رشة من هناك، حركة لا إرادية تبقى معنا من أب قاس أو صديق محبوب، نبرة صوت نلتقطها من مسلسل، قناعة ورثناها من معلم، مشية تشبه جارتنا القديمة، ضحكة أقرب للأم.
لطالما حيرني من يواجه الآخرين بقول مثل"ما عندكش شخصية!" كأن الشخصية كيان صلب يُولد معنا، لا يتغير، ولا يُستعار، ولا يتأثر. لكنني لم أفهم، ولا أعتقد أنني سأفهم هذا الادعاء. فالكل في جوهره لا يملك "شخصية منبثقة" بل يمزج بنسب متفاوتة طباع من حوله، سلوكياتهم، قناعاتهم، وحتى نبرات أصواتهم. الشخصية ليست جوهرة فريدة بقدر ما هي تركيبة كيميائية نسبية. ليست ندرة بل لأن نسب الخلط هي ما يصنع الفرق كأنك تضبط السكر في الشاي، أو توازن الملح في السلطة المكونات واحدة لكن الطعم يتغير من يدٍ لأخرى.
لكن مع كل هذا يظل سؤال يلحّ علي كيف يمكن أن يظهر إنسان متزن أو راق في ذوقه أو واع في تفكيره داخل بيئة غارقة في الفوضى أو الصمت أو العشوائية؟ كيف يُولد النقاء وسط الركام؟ كيف يحافظ شخص على عافيته النفسية وسط صخب مريض؟ كيف يصحو من لم يوقظه أحد؟ ربما نولد مختلفين، أو ربما بعضنا يمتلك حاسة داخلية تجعله يلتقط من العالم ما لا يراه غيره. ربما هي مصادفة أو مقاومة خفية أو جوع شديد لمعنى لم يجده في محيطه فذهب يبحث عنه في الداخل.
فهل نحن حقا أبناء بيئتنا؟ أم أن فينا شيئًا يتجاوزها؟ وهل نُبنى بالكامل ممن حولنا أم أننا في لحظة ما نبدأ في بناء أنفسنا بأنفسنا؟ وهل الاختلاف نعمة أم عبء في مكان لا يفهمه؟
التعليقات