منذ أن وطأت أقدام المستعمر أراضي شعوبنا، لم يكن هدفه مجرّد السيطرة على الموارد أو إحكام قبضته العسكرية؛ بل كان يسعى إلى ما هو أعمق: صياغة نسخة جديدة منّا، نسخة مشوّهة تشبهه أكثر مما تشبه جذورنا.

تركنا الاستعمار ظاهرياً، لكنّه بقي معنا في اللغة التي نتحدثها أحياناً بخجل، في القوانين التي تحكمنا دون أن نفهم روحها، في التعليم الذي يرسم لنا صورة "المتحضّر" و"المتخلّف"، وفي الحدود التي تقطّع أوصالنا باسم "السيادة" و"الأمن القومي".

صارت بعض أوطاننا نسخاً مصغّرة من مستعمرها؛ تلبس زيه، تعيد إنتاج نظامه، وتقمع بشراسة أي محاولة للعودة إلى الأصل، وكأنّ هذا الأصل تهديدٌ وجودي. فكيف تحوّل البحث عن الجذور إلى "خطر قومي"، وكيف صار الوفاء للذات تهمة تستدعي العقاب؟

إنّ الاعتراف الرسمي بحدودٍ رسمها الآخر، وتقديس "الخرائط" التي وضعها موظف استعماري على طاولة في عاصمة بعيدة، يكشف حجم المفارقة:

نحن نتصارع اليوم لحماية ما لم نرسمه نحن، ونبني هويتنا على ما لم نختره نحن، ونحارب من يحاول تذكيرنا بما كنّا عليه قبل أن نصبح "مشروعاً استعمارياً ناجحاً".

لكن، أليس هذا تاريخ البشرية؟

حضارة تنهض على أنقاض حضارة، أمة تكتب مجدها بحبر دماء أمة أخرى. من بابل إلى روما، ومن قرطاج إلى الأندلس، يبدو أنّ عجلة التاريخ لا تدور إلا بهذا المنطق المرير. فهل يعني ذلك أنّ الاستلاب قدر، وأنّ الضياع سنة الحياة؟

هنا يطلّ السؤال الأخلاقي: هل العودة إلى الأصل فضيلة؟

العودة ليست تراجعاً إلى الوراء كما يُروّج لها، بل قد تكون استعادة للبوصلة قبل أن نفقد الطريق كلياً. العودة لا تعني إنكار الحاضر ولا رفض ما هو حديث، بل تعني تحرير الذات من عبودية الصورة المستوردة، وإعادة ترتيب العلاقة مع العالم بملامحنا نحن لا بملامح غيرنا.

إنّ أمّة بلا أصل هي شجرة بلا جذور، قد تنمو أوراقها سريعاً لكنها تسقط عند أوّل ريح. وربما لا تكون العودة إلى الأصل ترفاً فكرياً، بل شرطاً للبقاء الإنساني نفسه.

فهل نحن حقّاً نحن؟ أم أنّنا لم نزل، إلى اليوم، ظلالاً باهتة لمستعمرٍ رحل جسداً وبقي فكراً؟