ما أراه إنجازًا قد لا تراه أنت شيئًا، وما تحسبه أنتَ عظيمًا قد لا أرى فيه أنا الكثير. لنأخذ مثالًا: أعتقد أنّ «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي هي من أعمق الأمور التي كُتبت على مرّ الزمن (والتي قرأتُها في حدود علمي المتواضع طبعًا)، لكن قد تراها أنت على أنّها مجرّد «رواية» لا طائل منها، ومجرّد عبثٍ لن ينفع على الإطلاق. قد أرى في مثالٍ آخر وإذا قلبنا الطاولة أنّ الحصول على المرتبة الأولى وطنيّا في امتحان البكالوريا هو أمرٌ رائع، لكن ليس بتلك الدرجة من العظمة، وليسَ إنجازًا مقدّسا يُخوِّل لصاحبه أن يَكُون عبقريّا كما يعتقد الكثيرون، ولي أسباب سأشرحها فيما بعدُ؛ بينما أنت تعتبره الإنجاز الضخم الذي سيفتح الأبواب ويُمدِّد الطرق. في رأيي أنّ الإنجاز الحقيقيّ الكبير (ولا أحكي عن الإنجازات الروتينيّة، فقد نجد عند أيٍّ منّا أنّ تنظيم النوم هو هدف نطمح إليه وإنجازه يُعتبر عظيمًا إذا تحقّق، لكن هذا أمرٌ مخالف عن ما أتحدّث)، في رأيي إذن أنّ الإنجاز الكبير هو ما يتركُ الأثرَ على أمدٍ طويلٍ، فمثلا كتابُ القانون لابن سينا هو إنجاز يفوق العظمة، لأنّ العلماء في الطبّ اعتمدوا عليه حتّى القرن السابع عشر (في الغرب خاصّة إبّان نهضتهم تلك)، ولتكُن كذلك نسبيّة أينشتاين أمرا جلَلا وصل إليه ألبرت لأنّ تأثيرها لا زال حتّى وقتنا هذا، وهي النظريّة التي فتحت عيوننا على كثير من الأمور المجهولة، بل تمتدّ اكتشافات علماء الرياضيّات ودراساتهم الأوليّة إلى إقامة أعقد البرامج الحاسوبيّة، وقِسُوا على ذلك الأثر في مختلف الميادين الذي تُرك عبر حِقَب من الدهر. ولو عدتُ بقفزة قِطٍّ لوصل ما انقطع، فإنّني أعتبرُ لأسباب معيّنة أنّ الحصول على المرتبة الأولى وطنيّا في البكالوريا ليس بذلك الإنجاز العظيم، قد يعتقد بعضُ القرّاء أنّني متعجرف أو شخصٌ لم ينضج عقله بعدُ (أنا أشكّ في هذا معكم أيضًا)، لكن لِنكُن في القليل من أطراف حياتنا منطقيّين ولا نغترّ بما هو سائد في محيطنا، ونتقبّله عَنوةً بدون تمريره على الفكر: الفرقُ بين الحاصلين على المراتب الأولى (لنقل الثلاث الأولى منها) وبين الطلّاب الذين وراءهم ليسَ كبيرًا جدّا، وهنا أقصد المعدّل لا المستوى الذي نجهله، فالحاصل على: (19,23) تُحيط به بلبلة عظيمة (آنية كذلك وتنتهي بانتهاء الحدث)، يُمجَّد ويَظهر على مختلف القنوات التلفزيُونيّة واللقاءات في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وهذا كلّه لاكتشاف السرّ الثمين للحصول على معدّل مثله، وقد يزيد فيها هو نفسه ويتخيّل أنّه المُعلِّم الأمين الذي يُطلِق أسراره المحيّرة على طريقة التنميّة البشريّة المُقزّزة، لا فرق قُلنا إذن بين هذا الطالب السابق والطالب الذي يحصل مثلا على: (19) ولا يُسمَع بهِ أصلًا، ربّما إلّا في ثنايا مدرسته وصفحة مدينته على فيسبوك (أنا هنا لا أذمّ أحدًا، بل أفرض فرضيّات وأحقّق معلومات). نهيكَ كذلك عن ما يعتمده الامتحان من حفظ، نعم أقول حفظا ولا أقصد ما هو عاديّ ويستوجب الحفظ، بل أقصد الامتحانات العلميّة، والرياضيّات على وجهٍ أدقّ، تحفِظُ فكرةَ حلِّ تمرينٍ وتذهب فرحانا لكتابتها ولا يتغيّر شيئ في ذا التمرين إلّا في تبديل الواو بالفاء عند الربط بين الجمل عند طرح الإشكاليّة، أو في الأرقام. لكن السؤال الذي يحشر ذاته: هل هذا أمرٌ سلبيّ؟ أجيبُ بأنّني لا أستطيع الحكم على منظومة تعليم بدقّة كانت فاشلة أو ناجحة (لأنّني بطبيعة الحال أصغر من هذه المرتبة)، والمنطقُ المعمُول بهِ يقول أنّ الامتحانات لم تُوجد لاكتشاف العباقرة إلّا في حالات خاصّة، بل وُضعت لتقدير المجهود وجلب النقطة، عكس ساعات الدرس أو الأبحاث الخاصّة، وأنا هنا لا ألغي احتماليّة معرفة ذكاءِ طالبٍ ما عن طريقة إجابته، لكن أبيّن لكم بمنظور آخر على أنّ المراتب الأولى في البكالوريا لا تعني: عبقريّةً، بل هي مجهود حقيقيّ ومتعب أغلبه في الحفظ، وأنا لستُ ضدّ ذلك لأنّ المعلومات -أيًّا كانتْ- نحفظها وتستقرّ في ذاكرتنا طويلة المدى، لكن المشكلة العظمى التي يسقط فيها الطلّاب فرائسًا هي الحفظ الأعمى، حفظٌ بلا فهم، حفظٌ بلا تفكير، حفظٌ من أجلِ المراتب، ثمّ نسيانٌ ضخمٌ لكلّ ما تعلّموه في أوّل خطوة بعد باب الجامعة. ولديّ اعتقاد قديم ومرسّخ أنّ على المرء أن يعمل بحبّ لأنّ المرتبة تأتي «تلقائيًّا» بعده. قد أحذّر نفسي وأحذّركم معي أنّ الناس أصبحت تعتبر أشياءً واهية جدّا على أنّها إنجازات، لأنّ مواقع التواصل الاجتماعيّ تُضخِّم الهيّن، والآن أصبح تعديل بسيطٌ على البايو يجعل من صاحبه ما يجعل، بينما في الحقيقة عقل الصاحب هذا خاوٍ، بعيدًا عن تحديد ذكائه عبر عدد المتابعين والإعجابات التي يُمكن الحصول عليها -للأسف- بأهون الطرق، وهذا ما يزيد في غُلواء الوهم. قد تختلف معي في نظرتي، وهذا أمرٌ واردٌ جدّا، لكنّني لم أفعل شيئًا إلّا نقل ما يُخربش شَغاف عقلي، وآمل أن تجد فيه بعض النفع، إنْ لم تجد نفعًا فهو على الأقلّ سيجعلك تفكّر، مجدّدا، وفي بعض الأمور التي غفلتَ عنها سابقًا.
الإنجازات الضخمة بيني وبينك
من رأيي، إن كانت الدرجات أو المراتب العليا ليست دليل على العبقرية، فهي دليل على الالتزام، والجهد المثمر، وعقلية المكافح.
من رأيي ما فائدة شخص ذكي دون أن يستخدم ذكائه؟ يعتقد أنه أعلى من مَنْ حوله، وأن الحفظ طريقة عقيمة للتقييم، فلا يذاكر ويتعجرف على النظام. إذا كان النظام سيء فهو سيء على الجميع، ليس عليه فقط. إذا تخاذل فهذه المنظومة من رأيي فهو فشل في هذه الخطوة، لا أعني أنه يجب أن يطلع الأول، أعني أنه يجب أن يبذل ما في وسعه. أي مرحلة نمر بها هي اختبار للمرحلة المقبلة، ممكن أن نفشل في مرحلة لكن هذا لا يعني أننا فشلنا في الحياة كلها.
باختصار، إذا كنا نملك قدرًا من الذكاء، فلنستغله على أنفسنا أولًا ثم ننظر إلى سبل الحياة المختلفة التي ممكن أن نطبق قدرتنا عليها.
أنا أرى أن النجاح الذي يرفرف بعد إعلان نتائج الثانوية العامة، هو شيء بسيط مقابل التعب الذي تعبوه خلال السنوات الماضية في حياتهم، وأن النجاح الحقيقي ليس نسبة المعدل، لكن النجاح الحقيقي هو ماذا ستصبح في المستقبل.
وماذا ستقدم للمجتمع.
ومن ستكون...؟
رأيت أكثر من مرة فتيات يقلن لي، أنا كنت من أوائل فلسطين في الثانوية العامة، ثم تجدها تعمل بوظيفة عادية، أعتقد أن الشخص يجب أن يكون طموحه أعلى من تحقيق درجات عالية وحسب، بل أن ستوجه لأن يبقي خلفه إرث علمي فريد ومتميز.
فما الفائدة من نجاح باهر في الثانوية، وثم اندثار باقي العمر!
فارس!!!! حقاً أدهشتني.. هل لي أن أسألك فضولاً كم مضى من سنيّ عمرك؟ إذ أظنك ما تزال في ريعان الفكر وخصوبة الأفكار..
وحتى لا تظن سؤالي سببه مقالك، سأكون واضحة بقول أنّ صورتك الشخصية تُخبر عن شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة، لهذا أقول أدهشتني، وأحببت أن أعرف مدى صحة هذا الأمر.
سأخبرك بحالة عايشتها تماماً.. أعرف صبية أنهت الثانوية العامة هذا العام حيث منذ عامين تماماً لم يذهب أطفالنا أو شبابنا للمدراس الحكومية أو الجامعات الحكومية بسبب كورونا، لذلك اعتمدت على الدراسة المنزلية، لم تذهب لمدرس خصوصي كون الوضع الاقتصادي للعائلة لم يكن مرتاحاً، لم تلتحق بأي معهد لتدريس مواد الثانوية العامة الفرع العلمي، كانت تعتمد على دراستها الخاصة وعلى نتائج بحثها على الانترنت ويوتيوب في المسائل التي تستعصي عليها،
في أوقات فراغها تعلمت بالإضافة للغة الإنجليزية اللغة الفرنسية وبدأت بتعلم اللغة اليابانية والتركية.
كما أنها تعلمت فنوناً كثيرة ابتداء من الرسم والنحت والأشغال اليدوية فقط من متابعة الانترنت.
في نتائج الثانوية العامة حصدت 93%، بالمقابل كان الأوائل بمعدلات وصلت 98.9%، وحين تم إجراء مقابلات معهم كانوا خريجي مدراس خاصة، وقام ذويهم بوضع أستاذ خصوصي لكلّ مادة.
بالنسبة لي تلك الصبية أكثر طموحاً وذكاء وإصراراً من أولئك الذين حصدوا العلامات وقد وجدوا للدلال طريقاً.
وبالنسبة لي هذه الصبية ستملك الفرصة لتحفر اسمها مجداً فقط إن واتتها الفرصة وملكت الطريقة.
بالنهاية أنت قلت:
ما أراه إنجازًا قد لا تراه أنت شيئًا، وما تحسبه أنتَ عظيمًا قد لا أرى فيه أنا الكثير
صحيح، النسبية هنا واردة، ولا صحيح مطلق أو خطأ مطلق، لكن هنالك أمور لا يمكننا أن نختلف عليها وإن صغناها بطرق متعددة.. منها بأن الغثّ وإن بدا ملفتاً مصيره للزوال، والسمين وإن كان باهتاً سيبقى.. بالنهاية من يغريه اللمعان سيكتشف بأنّ ما كلّ ما يلمع ذهباً...
أعتقد أنّك صائبة فيما تكهّنتِ، أنا أبلغ سبعة عشر عامًا.
نعم، ما برهنته هذه الصبيّة هو عظيم، أتذكّر قول أحد علماء النفس: «نحن نستغلّ نصف قدراتنا» إن لم يكُن أقلّ. هنيئًا لمثابرتها العظيمة، وآملُ أن تواصل على هذا المنوال.
آخر ما قلتِه كان صادِقًا جدًّا، في نهاية المطاف ستسير الأمور بخيرٍ، إذا سعينا له.
التعليقات