لماذا يقل تأثير ما نستهلكه مع الوقت وتكرار الاستخدام والاعتماد ؟

برأيي هذا الأمر يرتبط بما يمكن أن نسميه "تكيف المتعة"، فنحن كبشر نميل إلى التعود على الأشياء، حتى أجملها ومع التكرار يفقد الدماغ إحساسه بالدهشة، في البداية كل تجربة تكون كأنها مهرجان حواس، لكن مع الوقت تتحول إلى روتين مألوف، وكأن العقل يقول: لا جديد هنا فلنوفر الطاقة، لذلك القهوة تفقد مفعولها، وقيادة السيارة تصبح مجرد وسيلة، وحتى اللحظات السعيدة تحتاج تجديدًا حتى تظل مؤثرة، المسألة ليست أن الأشياء تفقد جمالها، بل أن أدمغتنا تمر بعملية تعرف بالتعود العصبي، حيث تقل استجابتها للمحفزات المتكررة بمرور الوقت، مما يجعل التجربة أقل إثارة حتى وإن بقيت كما هي.

إنني على العكس تمامًا لا أشعر بذلك الفتور مع التكرار، بل إن التكرار ذاته يجعل الأشياء أقرب إلى قلبي، وأشد تأثيرًا في نفسي. القهوة مثلًا، لم أفقد شغفي بها يومًا، بل صارت طقسًا شخصيًا لا تكتمل ساعتي الأولى من اليوم دونها، وكل رشفة تحمل معها ذكرى، ودفئًا، وتركيزًا يتجدد، لا يبهت.

القيادة أيضًا، لم تصبح مملة بالنسبة لي، بل تحولت إلى مساحة تأمل، وفرصة للهروب من زحام الأفكار. مع كل مشوار، تتعمق علاقتي بالسيارة، بطريقتي الخاصة في الإمساك بالمقود، وبالموسيقى التي أختارها، وكأنها جزء من يومي لا أملّه.

بالنسبة لي لا التكرار يطفئ الحب، ولا الاعتياد يبهت المتعة، بل أحيانًا المزيد من الشيء هو ما يجعلني أتمسك به أكثر، وأرغب في تكراره بلا ملل.

سؤالك عميق ويلامس واحدة من أكثر الظواهر الإنسانية إثارة للتأمل وهي تراجع أثر الأشياء علينا مع مرور الوقت أو كثرة التكرار

في الحقيقة ما تصفينه يُعرف في علم النفس بـ "التعوّد" أو "الاعتياد النفسي" وهو آلية طبيعية في الدماغ هدفها تقليل الاستجابة للمثيرات المتكررة

فعندما نختبر شيئًا جديدًا يشعرنا بالمتعة أو الحماس فإن دماغنا يُكافئنا باندفاع كيميائي من الدوبامين

لكن مع التكرار تقل هذه الاستجابة لأنه لم يعد جديدًا أو مفاجئًا

القهوة التي كانت توقظنا أصبحت مجرد عادة

وركوب السيارة الذي كان رمزًا للحرية تحول إلى عبء يومي

والأشياء التي كانت تملأنا سعادة باتت باهتة فقط لأنها أصبحت مألوفة

هذه الآلية ليست عيبًا فينا بل وسيلة فطرية تساعدنا على التكيف مع الحياة وتوفير الطاقة الذهنية للأمور الجديدة والمجهولة

لكن في المقابل هذه الظاهرة تضعنا أمام سؤال أكبر

كيف نحافظ على قدرتنا على الاستمتاع رغم الاعتياد؟

الإجابة لا تكون في مطاردة المتعة الجديدة فحسب بل في تجديد النظرة للأشياء القديمة

أن نعيد اكتشاف ما نملكه بدلًا من أن نفقده بالتجاهل

أن نمارس الامتنان بتأنٍ لا كواجب بل كفن

وأن نفهم أن السعادة ليست في قوة التأثير بل في عمق التقدير

وقد يكون الحل أيضًا في إدخال التوازن لا الإفراط

فكثرة الاستخدام تفقد الأشياء بريقها لأننا لا نمنح أنفسنا مساحة للشوق أو الترقب أو حتى التأمل فيما نفعله

فالتقدير لا يُولد من الوفرة بل من الشعور بالقيمة

سؤالك لا يُسلط الضوء فقط على تراجع أثر الأشياء بل يوقظ وعينا تجاه كيف نعيش وكيف نستهلك مشاعرنا وتجاربنا دون أن نستنزفها

شكرًا لك على هذا الطرح الذي يحمل في طياته دعوة رقيقة لأن نتصالح مع التكرار دون أن نفقد الدهشة