عندما نفكر في المساواة في الحقوق، قد نتخيل أن تطبيق هذا المبدأ يعني منح الجميع نفس الفرص والحقوق، ولكن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا. فالفروقات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها الأفراد قد تمنع البعض من الاستفادة الكاملة من هذه الحقوق، حتى وإن كانت مضمونة لهم، على سبيل المثال في مجال التعليم، قد يحصل الطالب من عائلة ذات دخل منخفض على نفس الحق في التعليم مثل أي طالب آخر، لكن قد لا تكون لديه نفس الفرص بسبب ضعف الموارد أو نقص الدعم، وفي هذا السياق قد يكون التمييز الإيجابي ضروريًا لضمان تكافؤ الفرص بين الأفراد، خاصة أولئك الذين يعانون من التحديات الاقتصادية أو الاجتماعية. فهل تعتقدون أن المساواة في الحقوق كافية لتحقيق العدالة، أم أن التمييز الإيجابي هو الحل لضمان فرص حقيقية للجميع؟
المساواة في الحقوق، هل تصلح دائمًا؟
للأسف يخلط الكثيرون بين بالرغم أن المساواة والعدالة ليسا نفس الشيء. المساواة تعني أن يتم منح الجميع نفس الفرص أو الحقوق بشكل متساوٍ، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الجميع سيستفيد منها بنفس الطريقة. فالأفراد المختلفون قد يواجهون تحديات وقيودًا مختلفة تؤثر في قدرتهم على الاستفادة من تلك الفرص.
أما العدالة، فهي تتطلب النظر في هذه الفروقات ومعالجتها بما يضمن أن كل فرد يمكنه الوصول إلى فرص حقيقية بناءً على احتياجاته وظروفه. بمعنى آخر، العدالة لا تقتصر على منح الجميع نفس الشيء، بل منح كل شخص ما يحتاجه للوصول إلى نفس النتائج. التمييز الإيجابي، على سبيل المثال، هو وسيلة لضمان العدالة من خلال تلبية احتياجات الفئات التي تعاني من التحديات الاقتصادية أو الاجتماعية، مما يتيح لهم فرصًا متكافئة مع الآخرين.
لكن هل يمكننا القول أن التمييز الإيجابي هو الحل الأمثل دائمًا لتحقيق العدالة؟ فبينما يهدف إلى توفير فرص متكافئة للأفراد الذين يعانون من ظروف صعبة، إلا أن هناك من يعتقد أن هذا النوع من التمييز قد يؤدي إلى نتائج غير متوازنة أو يخلق نوعًا من التفرقة بين الأفراد، لذا هل من الممكن أن نوجد طرق أخرى لتحقيق العدالة دون الحاجة إلى التمييز الإيجابي، أم أن هذا النهج هو الأكثر فعالية لضمان تكافؤ الفرص؟
في رأيي، التمييز الإيجابي مفيد لكنه محفوف بالمخاطر. صحيح أنه يفتح أبوابًا كانت مغلقة أمام الفئات المهمشة، لكن إن لم يُدار بحكمة، قد يُنتج حالة من الاعتماد أو حتى التراخي، لأن البعض قد يشعر أنه سيحصل على فرص لا لشيء إلا لأنه ينتمي لفئة معينة.
هل يمكننا تصميم برامج دعم ذكية تُحفّز الاجتهاد بدل أن تعتمد فقط على الخلفية الاجتماعية؟ وكيف نُقنع المجتمع بأن هذه الإجراءات ليست "تحيزًا" بل محاولة للإنصاف؟ هنا التحدي الحقيقي
وكيف نُقنع المجتمع بأن هذه الإجراءات ليست "تحيزًا" بل محاولة للإنصاف؟ هنا التحدي الحقيقي
وهل هناك ما هو مقنع أكثر من كون بعض هؤلاء الأشخاص تحت خط الفقر؟ بل ولديهم الكثير من المشاكل التي تمنعهم من الوصول إلى الفرص المتاحة لغيرهم، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية، التمييز الإيجابي ليس تفضيلًا غير مبرر، بل هو محاولة لتصحيح عدم المساواة التي نشأت نتيجة لهذه الظروف الصعبة، ونحن لا نتحدث عن منح فرص بدون جهد، بل عن تمكينهم من الحصول على فرصة عادلة ليتمكنوا من إثبات قدرتهم وإمكاناتهم بعيدًا عن القيود التي فرضتها عليهم البيئة التي نشأوا فيها.
صحيح أن التمييز الإيجابى قد يتحول إلى عبء إن لم يصمم بطريقة محفزة، لذلك، فإن الحل يكمن كما تفضلت، فى تصميم برامج دعم ذكية تقوم على ثلاثة أعمدة : التمكين المبنى على الاحتياج، وليس الهوية فقط ، و التحفيز على الاجتهاد والمثابرة، و إشراك المجتمع في فهم فلسفة التمييز الإيجابي ، مثال يوضح دا السلم غير المتوازن: إذا كان هناك شخص على أرض منخفضة وآخر على مرتفع، فإن إعطاء الاثنين نفس السلم ليس عدلاً... بل نحتاج لتعديل وضع المنخفض أولاً لنبدأ من نقطة عادلة. التحدى هو فى الإقناع، لكنه يبدأ حين نفهم ونُفهم أن العدالة لا تعنى التشابه فى المعاملة بل التوازن في النتيجة.
أعتقد أن المساواة في الحقوق وحدها لا تكفي لتحقيق العدالة الحقيقية، خصوصًا عندما تكون هناك فروقات كبيرة في الفرص والموارد. التمييز الإيجابي قد يكون خطوة ضرورية لضمان تكافؤ الفرص، خصوصًا لأولئك الذين يواجهون تحديات اقتصادية أو اجتماعية تمنعهم من الاستفادة الكاملة من هذه الحقوق. في النهاية، العدالة تتطلب مراعاة الفوارق الموجودة وتقديم الدعم لمن يحتاج
أرى نفس الشيء أيضًا، فالمساواة في الحقوق قد لا تكون كافية إذا لم يتم التعامل مع الفوارق الأساسية التي تعيق بعض الأفراد من الوصول إلى الفرص المتاحة، والتمييز الإيجابي حين يُطبق بشكل حكيم، يمكن أن يساعد في تصحيح هذه الفوارق من خلال تقديم الدعم للأفراد الذين يواجهون تحديات اقتصادية أو اجتماعية، ومن المهم أيضًا أن نعلم أن الدراسات أظهرت أن تمكين الفئات المهمشة من خلال هذه السياسات لا يعزز فقط العدالة الاجتماعية، بل يساهم أيضًا في تعزيز النمو الاقتصادي العام من خلال زيادة مشاركة هذه الفئات في سوق العمل.
سؤال في غاية العمق، لأنه يضعنا أمام مفارقة فلسفية قديمة بين العدالة بوصفها مساواة، والعدالة بوصفها إنصافًا. المساواة في الحقوق تبدو للوهلة الأولى مبدأ لا خلاف عليه، لكنها في الواقع قد تُخفي داخلها نوعًا من الظلم الصامت، إذا لم تأخذ بعين الاعتبار الخلفيات غير المتساوية التي ننطلق منها جميعًا.
جون رولز، في كتابه "نظرية في العدالة"، يقترح مفهوم الستار الجاهل، أي أن نختار مبادئ العدالة كما لو كنا لا نعرف مكانتنا الاجتماعية أو قدراتنا الفردية. ولو طبقنا هذا فعلاً، فسنجد أن كثيرًا من الناس – لو وُضعوا تحت هذا الستار – سيطالبون لا بالمساواة فقط، بل بأشكال من التمييز الإيجابي الذي يعوّض الفجوات.
التمييز الإيجابي لا يُناقض المساواة، بل يعمّق معناها. هو انتقال من العدالة الشكلية إلى العدالة الواقعية. فأن تعطي نفس مقدار الماء لشخص في الصحراء وآخر بجانب نهر، هذا ليس عدلًا، حتى وإن بدا مساواة.
لكن علينا الحذر أيضًا؛ لأن الإفراط في التمييز الإيجابي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، تُشعر الآخرين بالظلم أو تولّد نوعًا من الاعتماد بدل التمكين. هنا، يعود السؤال إلى جوهره الأخلاقي: ما الهدف من العدالة؟ هل هو المساواة أم الكرامة الإنسانية؟ وهل يمكن تحقيق الثانية دون الأولى؟
لذا، ربما لا يكمن الحل في المساواة المجردة، ولا في التمييز الدائم، بل في خلق نظام يُعطي لكل فرد ما يحتاجه فعلًا ليقف في نفس خط البداية مع الآخرين، لا أكثر ولا أقل.
التعليقات