أجرُّ قدمي في زقاقٍ دامس الظلال، تلفحني نسماته الباردة والمعتقة بالغبار.
صدى وقع أقدامي يرنُّ في أذني، كأنني أُعلن وجودي في مكانٍ نسيه الجميع.
أسير بإصرارٍ ضد تيارٍ يدفعني بوحشية، وفي لحظات عجزي الأخيرة، تتراءى لي بوابة خشبية باهتة الطلاء، تتخللها شقوقٌ عميقة.
أسحبها بقبضة متراخية، فتُبكي مفاصلها بصريرٍ عالٍ.
ثمة كائن عند الزاوية...
هل هو بشري يا تُرى؟
صغير الكتلة، ذو شعرٍ كثيف وأملس، مهمل المظهر.
يبدو أنها فتاة. نعم، هي فتاة.
أنظر إلى عينيها؛ إنها منطفئة، وملامحها جامدة.
أفيق من ذهولي لأطرح السؤال الأهم:
لماذا يترك أحدهم طفله وحيدًا في هذا المكان المرعب؟
أقترب منها بلطف.
— مرحبًا يا صغيرة... هل أنتِ وحدكِ هنا؟
_ نعم.
— تبدين لطيفة... ما اسمكِ؟ وهل والداكِ في الجوار؟
(أعتقد أنها لن تُجيب. تحاول تشتيت انتباهها عني، تحدق بعينيها في الجدار.
لا يمكنني التأكد مما رُسم عليه، الظلام حالك، لكنها أشبه بحيوانات بشرية تتقاتل، تلوّح بأذرعٍ مشوهة، وتصرخ في صمت.)
_ اسمي آن.
— آه، حقًا؟ اسمكِ جميل. أعتقد أننا سنصبح صديقتين؛ لأننا نحمل نفس الاسم.
(هي لا تُبدي أي ردّ فعل تجاه ما أقوم به من بهلوانات وتهريج.
أعتقد أنها تُركّز على أمرٍ ما وتستغرق كثيرًا في التفكير.
يجدر بي قطع حبل أفكارها. عليّ العودة أيضًا، ينتظرني دوامٌ طويل للغاية.)
— حسنًا صغيرتي، هل تعلمين أين نحن؟
(تنظر إلى عينيّ بقوة، كأنها تحاول تجميع شيءٍ في ذهنها الصغير.
حتمًا بدأتُ أشعر بالرعب.
تشير إلى شيءٍ بأصابعها الرقيقة...
إنها تشير ناحية صدري.)
— هنا؟ هل تعنين قلبي؟ هل نحن بالداخل الآن؟
_ نعم.
— لكن لماذا؟ لمَ نحن وحيدتان؟
_ لأننا نفس الشخص.
(أعتقد أن الدم توقف عن السير في عروقي، وشعرت بالهواء يلسعني بسبب جحوظ عينيّ.
هذه هي الثغرة.
لقد شعرتُ بالألفة ناحيتها، لكنني لم أُدرِك حقيقة تطابق وجهينا.
لا أحب النظر إلى المرآة كثيرًا، لذا أعتقد أنني أنسى القليل من ملامحي.)
— لكن... ألا تبدين صغيرة لنكون نفس الشخص؟
_ نعم، أنا "أنتِ" الصغيرة، في الماضي.
أحتاج إلى التحرر منكِ. عليكِ تركي.
يجدر بكِ المضي قدمًا. دَعي هذا المكان ينير.
— هل أنا من أقوم بحبسكِ هنا؟
أنتِ جزءٌ مني، لماذا عليّ ترككِ خلفي؟
_ لأنكِ لم تتعلمي رؤية الحياة إلا من خلال الألم.
كلما حاولتِ اللحاق بقطار الشباب، نزلتِ منه عند أول محطة، خائفةً من الذكريات.
توقفي عن استدعاء الأصوات التي تنخر في عقلك باستمرار.
— إذا نسيتُ الذكريات والسابق، سأكون نقطة لم تكن في الوجود.
ما كان يُعتبر سعادةً، كان مجرد مسرحيات.
يلعب فيها الممثل عدة أدوار، ويخفي خلف جدران خلاياه أنواعًا من السموم،
يقوم بدسّها في الهواء.
_ لا تنسي، فقط غيّري الزاوية.
اجعلي مني تمثالًا لصبركِ، لا حبسًا لخوفكِ.
تذكّري كم مرة أردتِ الصراخ، لكنكِ ابتلعتِ صوتكِ، وقلتِ:
"الغد أجمل، ولا مكان للمعاناة والحرمان في المستقبل."
اجدي لكتاب "التسامح" مكانًا بين رفوفك.
— أظن أني في المستقبل الآن، لأرى جماله...
لكن أين هو؟
إن العالم زهرةٌ تتغذى على البشاعة، وتستمد ألوانها من هالات البشرية الضائعة.
إذا كان عليّ أن أُسامح، فعلى هذا الكوكب أن يدور بالعكس.
_ لكن من يصنع اللون؟ أنتِ.
فلا تكوني أنتِ من يُطفئه.
— وإذا لم أستطع؟
_ توقفي، آن.
أذيبي الجليد.
دَعي من حولكِ يرون دفئكِ الحقيقي.
اصرخي إن أردتِ، انتحبي بشدة، اخرجي براثن الغضب من صدركِ.
ثم أغلقي هذا الباب، واكتبي عليه:
"كنتُ في الماضي."
وسنلتقي.
---
(أنا الآن أبكي.)
نعم، أَنُتحبُ بشدة.
أوجاعي القديمة تتخمر، لكنها لا تفقد جودتها.
أين ذهبت تلك الأحلام الوردية التي كانت تراودني عند اليقظة؟
كنتُ فيها البطلة، الحاكمة، المسيطرة...
كنتُ أنفي كل من آذاني.
وأنا أشتاق لتلك الأحلام.
التعليقات